الحياة كانت قاسية في مدينتي المزدحمة.. لكنني اشتقت إليها

عدد القراءات
693
عربي بوست
تم النشر: 2020/04/14 الساعة 12:40 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/04/14 الساعة 12:40 بتوقيت غرينتش

تتسم المدن الكبيرة بمجتمعاتها المفتوحة بعدد من السمات غير المرغوبة، فبخلاف الزحام وتسارع الأحداث وتكالب البشر على جني ثمار كدهم تعليماً وعملاً، آخرون يشغلهم صيد العميان من الغرباء، وحبك الألاعيب حتى يمتلئ الجيب.

تتسم تلك المدن بالقسوة وشُح العطاء المريح للمقيم فيها بنفس مشحونة ومهمومة، وجسد أنهكته الأعمال والحركة، حتى أن تشبيه تلك المدن بالماكينات العملاقة وأن المقيمين فيها لا يعدو كونهم قطعاً وتروساً لا يجب أن تتوقف عن العمل ولو للحظة حتى تستمر الماكينة في دورانها.

قبل كورونا الذي اجتاح الكوكب بأسره كدت وأنا ممن كُتب عليهم الكد في هذه المدن كالنملة التي تتصارع مع ناطحات سحاب، أن أفقد قواي من واقع الحياة وكثافة المسؤوليات وقلة الراحة وصعوبة تحقيق ما يراودني من أخذ قسط من الراحة في المنزل، بحيث لا خروج منه أو ارتباطات لم يعد من الممكن الهروب منها حتى وإن مكثت في المنزل بفضل التكنولوجيا.

وعلى ما تشتهي الأنفس المتعبة سارت السفن نحو الراحة والمكوث في المنازل لمواجهة فيروس خطير استقر على شواطئ الكوكب وهو فيروس كورونا.

واختلطت الأفكار والمشاعر بين حفاوة استقبال فرصة الراحة والبعد عن رحلات العذاب اليومية داخل وسائل المواصلات المتكدسة بأجساد مستنفذة كامل طاقاتها بعد تنافس حميم في المحطات المكتظة بالساعين إلى منازلهم، وبين جلل المحنة وجدية التهديد الناجم عن الإصابة بالفيروس وخاصة لكبار السن وأصحاب المناعة الضعيفة والأمراض المزمنة.

وبعد أيام من الاسترخاء والابتعاد عن أي عناء بدأت الحفاوة تتبدد وأخذت الصورة في جانبها الإيجابي تتلاشى وتتبدل حتى توحدت المشاعر والأفكار بعد اختلاطها، وأصبحت عاجزاً عن تنفيذ ما جاب بخاطري ووضعت له خطة نحو مزيد من القراءة والعودة إلى كتابة ما بنفسي وما تهواها.

مرت أيام غير منفصلة على نفس الحال بلا راحة ولا رائحة ولا فائدة ولا بال، ومن أين لي ذلك وقد سُجنت بغير سجان كغيري من البشر لا جديد إلا ما يعلن من تدابير وحظر واحتدام الخطر وإن خرجنا سنواجه الأمر، وأصبح الحيز الذي أشغله مصدراً في حد ذاته لإنتاج طاقة سلبية كفيلة بأن تزيد من أفولي.

اشتقت للشارع ولكن حتى يتحقق اللقاء ولو لبضع دقائق على سبيل الخلسة في أثناء ذهابي لإحضار احتياجات الأسرة، لا بد أن أتخذ التدابير الوقائية بارتداء غطاء على الأنف والفم وقفاز يد والتأكد من وضع المُطهر في جيبي، ثم التجول بين شوارع وبنايات ومحلات رائعة المعمار والهندسة والشكل، ولكن أبوابها مغلقة بعد أن اعتادت على زحام المريدين لها والمترددين عليها ومارة لا يتجاوزون عدد أصابع اليد.

لقد أصبح الشارع الذي أشتاق إليه مصدراً للحزن وازداد يقيني في أن العمران ومواطن الجمال هي الإنسان ولا غيره على الإطلاق، أحرص على عدم ملامسة أي شيء ومتى أنتهي من شراء مستلزماتنا أتجه مسرعاً نحو المنزل وأنا أفكر في إجراءات الدخول بخلع ملابسي وإلقاء القفاز في القمامة وغسل يدي ووجهي وفق المواصفات الدولية "20 ثانية" وتطهير كل ما أحضرته من الخارج حتى الأموال!

فما الدافع الذي أتحمل من أجله إجراءات الدخول والخروج من المنزل والتي تصل إلى نصف ساعة في كل مرة في ظل هذه المحنة بل إن الخروج إلى شوارع وطرقات خاوية وحزينة أصبح أيضاً محنة نحن بغنى عنها إلا في الضرورة.

وجدتني تحت تأثير هذه العوامل المتناغمة في سلبيتها أصف وبعمق ما أعيشه بأقل الكلمات:

إنها حقاً أسوأ أيام حياتي على الإطلاق؛

احتجبت مرغماً عن الخروج والانطلاق،

فلا عُدْتُ شغوفاً بطَرْق أبواب المعارف،

ولا أصبح في صدري متسع لتحمل ما يطاق

وما إن انتهيت من كتابة هذه الكلمات تذكرت السجون وسكانها وقسوة ما هم فيه لسنوات طوال فعاد لي رشدي وأزدت:

فما بال الذي على الخيش بات

وعليه حراس هذا بشر وذاك جماد

تحاصره جدران وأعواد شداد

ينتظر دوماً في ضيق مسكنه الممات.

أما عن الأخبار فتأتي تباعاً بما ينغص علينا ويضاعف من حجم بلوتنا، فمن هنا ومن هناك أخبار عن قتلى بالآلاف وعمليات قرصنة على معدات طبية قامت بها دول أوروبية وأمريكا والكيان الصهيوني لمواجهة الفيروس، توقعات برفع دعاوى تعويض على الصين باعتبارها مصدر الوباء.

أما في بلدي بلد العجايب فما زال العقل غائباً، فالحكومة متهمة بإخفاء الأرقام الحقيقية للمصابين والجيش يسعى للاستثمار بالتسويق لنفسه كدرع حصين يواجه الفيروس والإعلام كالأغنام يحركه الراعي والجميع مهدد والأطباء يصرخون من ضعف الإمكانيات وقلة المستلزمات الطبية التي أرسلت الدولة منها طائرتين على سبيل المساعدة لإيطاليا!

حتماً ستمر هذه المحنة ونتمناها قريباً وبأقل الخسائر في أرواح كل البشر، ولعل عدم انتقائية الفيروس في الوصول لضحاياه يحيي فينا الإنسانية وتغليب القواسم المشتركة بين كل البشر، أما عن تحول المنازل لأشياء أشبه بالسجون "مع حفظ الفوارق" وضعنا أمام جزء بسيط مما يعانيه السجناء في ظل أوضاع غير إنسانية كفيلة في حد ذاتها وفي الظروف الطبيعية بإنهاء حياتهم وإيلامهم.

الراحة والسعادة للجسد أو الروح لها مقادير إذا زادت أو نقصت فسدت، وأوقات إذا تجاوزتها تبدد أثرها، شأنهم شأن الكثير من الغايات لا يعدو كونهم سراباً كلما اقتربنا منهم ابتعدوا دون أن ندرك حقيقتهم، إنها أشياء غير ممتدة بحيث يمكن وصفها حياة سعيدة أو راحة مديدة، أشياء تقع في لحظات وتنتهي، يمتد تأثيرها ويتراكم عبيرها لتكون لنا ربيعاً في أكحل الأوقات عند تذكرها.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

حسين صالح عمار
محامٍ وباحث قانوني
حسين صالح عمار محامٍ وباحث قانوني سابق بوزارة التنمية المحلية، وباحث حقوقي ومساعد باحث في علم الاجتماع السياسي بجامعة أوكسفورد، وعضو مجلس إدارة مستشفى كرداسة الحكومي وعضو فريق تنسق برنامج مساعدة اللاجئين (صوي) بتركيا
تحميل المزيد