الاقتصاد المصري بعد كورونا.. هل مزيد من الرأسمالية؟

عدد القراءات
3,676
عربي بوست
تم النشر: 2020/04/13 الساعة 16:23 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/04/13 الساعة 16:23 بتوقيت غرينتش

في أواسط القرن الثامن عشر بدأت بوادر الثورة الصناعية في أوروبا والتي مهدت لبداية عصر الآلة وإحلالها محل القوة الجسمانية للبشر، وكان لتلك الثورة الصناعية في آلالات الإنتاج أثر كبير في تطور البشرية إلى الآن، فقد ازدهرت الصناعة والزراعة وانتشر العمران وتحسنت إلى حد كبير اقتصاديات الدول الأوروبية. 

ولكن كان لتلك الثورة الصناعية عوارض كارثية حيث انقسم المجتمع الأوروبي إلى مجتمع رأسمالي يتكون من أصحاب المصانع والمؤسسات التجارية والصناعية ورؤوس الأموال من حملة السندات الكبار، في مقابل طبقة العمال والفلاحين النازحين من الريف الفقير أملاً في الحصول على فرصة عمل في مصانع المدن، وهذا أوجد فوارق اجتماعية نتج عنها دعوات تدعو إلى تقليص تلك الفوارق والعمل على تحسين بيئة العمل والأجر المناسب للعمال، وهو ما مهد إلى ظهور الأفكار الاشتراكية والشيوعية والتي وجدت تجاوباً واسعاً لها من طبقة العمال والفلاحين الأمر الذي مهد إلى قيام الثورة الشيوعية في روسيا 1917. 

وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وجدت أوروبا الرأسمالية أن العدو الرئيسي لها هو روسيا (الاتحاد السوفيتي سابقاً) ليس لقوته العسكرية ولكن لأن شيوع الأفكار الإشتراكية  في بلدانها خطر عظيم يقوض النظام الرأسمالي ويقضي عليه ولهذا أخذت أوروبا بعدة تدابير عرفت لاحقاً "بدولة الرفاه" وهي أن تجعل المواطن الأوروبي لا يحتاج إلى شيء يجعله يفكر في اعتناق الأفكار الاشتراكية، وعليه فقد ظهرت تشريعات الضمان الاجتماعي وتأمينات العمال من الأمراض والحوادث، ومنح العمال والنساء حق التصويت الانتخابي وإعانات البطالة وإلى كثير من التشريعات التي تنازلت عنها الرأسمالية الأوروبية مكرهة وخوفاً من تغلغل الأفكار الاشتراكية.

ولكن كان للرأسمالية الأوروبية وجه استعماري استنزف موارد دول المستعمرات ونشرت فيها مبادئها التي جعلت من مواطني الدول المستعمرة عبيداً لدى وكلائها من العملاء المحليين ولهذا ما إن انتهت الحرب العالمية الثانية حتى بدأت موجة التحرر الوطني،، التي لم تكن استقلالا سياسياً فقط بل تحرراً من قيود الرأسماليه الجائرة.

                                          ****
في صبيحة يوم 23 يوليو 1952 ألقى البكباشي "محمد أنور السادات" بيان الثورة، والذي تلاه إعلان المبادئ الستة الشهيرة لثورة يوليو، ولكن أهم مبدأين من الناحية الاقتصادية كان المبدأ الأول والذي يدعو إلى القضاء على الإقطاع، والذي كان ينتمي إلى منظومة عمل القرون الوسطى والذي تحول بمرور الوقت إلى اقتصاد موجه لتوفير المواد الخام للرأسمالية الأوروبية وأتباعها من الرأسماليين المحليين وكلاء الاستعمار، والمبدأ الثالث وهو الذي يدعو للقضاء على سيطرة رأس المال على الحكم، حيث أصبح كبار الرأسماليين المصريين والأجانب بالأخص يتحكمون في الحياة السياسية المصرية ويستحوذون على كل مناصب الدولة الحساسة بما يضمن لهم السيطرة الكاملة على الحكم في مصر.  

وهكذا طبقاً للمبدأين الأول والثالث تحدد شكل توجه الدولة الجديدة في مصر بعد 23 يوليو، حيث اتجه النظام الجديد بقيادة الرئيس "جمال عبدالناصر" إلى تقويض النظام الإقطاعي وتفكيك منظومة رأسمالية الاستعمار "الكولونيالية" عبر قرارات تحديد الملكية وتأميم الشركات والمصانع، وكانت المرحلة الثانية وهي إنشاء البنية الأساسية لمصر القرن العشرين، فأنشأت المصانع والمزارع الكبرى والسدود والقناطر، مما مهد لنشوء حقيقي وواقعي للطبقة المصرية لأول مرة في التاريخ وصدرت تشريعات تحمي العمال والفلاحين وتعطي دوراً أكبر للمرأة المصرية لأول مرة في التاريخ، واستمر هذا النهج الاقتصادي حتى كان الصدام السياسي بين النظام المصري والنظام الرأسمالي العالمي فكانت النهايه المأساويه في نكسة 5 يونيو 1967  التي وضعت حداً لحلم كبير وأمل اقتصادي واعد، ومع انقشاع دخان قنابل الطائرات الإسرائيلية دخلت مصر مرحلة اقتصاد الحرب.

ورحل "جمال عبدالناصر" بتجربته الاقتصادية

                              ****

فى 17 يناير 1977 وقف الدكتور "عبدالمنعم القسيوني" نائب رئيس الوزراء للشئون المالية والاقتصادية في مجلس الشعب ليعلن عن إجراءات تقشفية لخفض العجز في الموازنة العامة للبلاد وهي إجراءات ضرورية لتمهيد الاتفاق مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لتدبير الموارد المالية التي تحتاجها البلاد، وكان ذلك بداية انتفاضة شعبية عارمة يومي 18 و19 يناير وصفت بأنها "انتفاضة الخبز" اجتاحت المدن الرئيسية وكان العمال في المجمعات الصناعية الكبيرة هم وقود تلك الانتفاضة الشعبية ضد الغلاء وكان شعار "يا ساكنين القصور الفقرا عايشين في قبور" شعاراً ملفتاً لأن هناك ارتداداً مجتمعياً عن مكتسبات فترة الحقبة الناصرية.

وما هي إلا ساعات حتى أصدر الرئيس "أنور السادات" قراراً بالتراجع عن القرارات الاقتصادية مضطراً واصفاً تلك الانتفاضة "بانتفاضة الحرامية"، واعتبر العمال أن ذلك انتصار لهم على من قرأ بيان ثورة يوليو وارتد عن مبادئها الاقتصادية، في مقابل رئيس ونظام يرون أن اقتصاد الحرب قد استنزف مصر اقتصادياً ومالياً وأن تلك الإجراءات ضرورية في ظل تحول إقليمي ناحية كتلة الرأسمالية العالمية مصر مجبرة على اتخاذ مساره. ما العمل إذاً؟

اتخذ الرئيس السادات بعض الإجراءات الاقتصادية والسياسية تصب في تحول مصر ناحية اقتصاد السوق، فأعاد طمأنة الرأسمالية المصرية القديمة عبر رفع الحراسة عن أموالها وأراضيها المصادرة وإخراج تيار الإسلام السياسي من السجون ليكون عوناً له عند اتخاذ أي قرار اقتصادي يقف العمال والفلاحون والطلبة ضده، وأعلن عن سياسة "الانفتاح الاقتصادي" التي تحولت إلى كارثة بعدما تحول إلى اقتصاد الوكلاء بدلاً من اقتصاد متطور، فقد أغرق دعاة الانفتاح مصر في نمط الاستهلاك وظهرت طبقات اجتماعية ظن الشعب أنها قد ماتت وأصبح على الطبقة الوسطى أن تكافح لكي لا تفقد مكتسباتها أمام بوادر انقسام مجتمعي حاد بين غني وفقير، وهو ما دعا الكاتب الكبير "أحمد بهاء الدين" لوصف سياسة الانفتاح الاقتصادي للرئيس السادات بأنها سياسة "السداح مداح" وهو ما أغضب السادات.

ومات السادات 1981 تاركاً القطاع العام مثقلاً بالديون والقطاع الخاص يمرح بطول البلاد وعرضها.

                                     ****

بتركة مثقلة بالديون وميراث سياسي ملطخ بالدماء تسلم الرئيس "مبارك " حكم مصر، فكان أول شيء أن دعا إلى مؤتمر اقتصادي كبير لكيفية إدارة البلاد اقتصادياً، وعلى الرغم من قرارات المؤتمر فقد اتخذ "مبارك" طريقاً آخر وجعل من الديون الخارجية حلاً أمثل وسريعاً لتطوير البنية الأساسية المهترئة في مصر، حتى ظهرت بوادر لعدم القدرة على سداد الديون في نهاية حقبة الثمانينيات من القرن العشرين، هنا جاءت اللحظة التاريخية لنظام مبارك  الاقتصادي، وذلك بمشاركة مصر في حرب تحرير الكويت في أوائل التسعينيات من القرن العشرين والتي كانت بمثابة طوق النجاة للاقتصاد المصري حيث جرى مكافأة مصر على دورها في الحرب بإسقاط أكثر من نصف ديونها للدول العربية والأوروبية وأمريكا والاتفاق على جدولة النصف الثاني مع نادي باريس للدول الدائنة، ولكن هذا كان مرهوناً بتحول مصر ناحية اقتصاد السوق بالكلية وإدارة ظهرها للاقتصاد الاشتراكي. 

وقد بدأت مصر في إجراءات التحول ناحية الاقتصاد الحر بروشتة البنك الدولي، فكانت إجراءات الإصلاح المالي والتشريعات الاقتصادية التي مهدت لما عرف بسياسة "الخصخصة" والتي تقضي ببيع الدولة لبعض أصولها من شركات ومصانع القطاع العام للقطاع الخاص بهدف تقليل سيطرة الدولة على الاقتصاد بما يسمح للقطاع الخاص والنظام الرأسمالي بالنمو. 

ولكن تحولت سياسة الخصخصة إلى سياسة "المصمصة" كما يصفها أحد المتهكمين وظهر الفساد في عمليات البيع والشراء لشركات القطاع العام وتم تشريد آلاف العمال بدعوى المعاش المبكر لعدم حاجة العمل لهم لدى المالك الرأسمالي الجديد، وعلى الرغم من أن معدلات النمو قد بدأت ترتفع في مصر إلا أن تلك المعدلات لم تر الدولة من ورائها غير ازدياد معدلات الفقر والبطالة في المجتمع، حتى جاءت الأزمة الاقتصادية العالمية 2008 لتزيد من معاناة الشعب، لكن النظام المصري تدخل بسرعة لتوفير احتياجات الشعب من السلع في محاولة لخفض الأسعار خوفاً من انتفاضة شعبية ظنها قريبة، ولكن يبدو أن ذلك كان مسكناً إلى حين.

واندلعت ثورة 25 يناير وأزاحت الرئيس مبارك نتيجة سياساته الاقتصادية.

                               **** 
بعد أحداث 30 يونيو 2013 وتولى الرئيس "السيسي" مقاليد الأمور في مصر، فقد اتخذ الرئيس إجراءات ظنها تأخرت 40 عاماً منذ عهد "السادات"  وأن التدهور الاقتصادي بدأ بعد نكسة 1967.

وقد تحمل الشعب أعباء تلك الإجراءات التقشفية والتي كانت وفقاً لبرنامج الإصلاح بالمشاركة مع البنك الدولي إلى الآن على أمل تحسن الأوضاع الاقتصادية وسط انقسام مجتمعي حاد بين أغنياء وفقراء وتآكل كبير للطبقة الوسطى عماد المجتمع وعموده الأساسي، ووسط تراجع معدلات التضخم الصاروخية في بداية الإصلاح وزيادة الاحتياطي النقدي الأجنبي وبوادر انفراجة في الاقتصاد جاءت أزمة فيروس كورونا والأزمة الاقتصادية العالمية لتقوض ما تم سابقاً، ولكنها أعطت متنفساً كبيراً لمراجعة الإجراءات التي تتم لتحويل مصر إلى دولة رأسمالية حيث ظهرت الحاجة إلى دور كبير للدولة وليس تراجعاً من أجل الحفاظ على مكتسبات الشعب بعدما أثبت القطاع الخاص في مصر والعالم أنه لا يلتفت إلى الدور المجتمعي إلا من منظور توريد الشغيلة من العمال إلى مصانعه.  

العالم لن يعود كما كان وإن على الدولة أن تعمل على صياغة نظام اقتصادي برؤية جديدة تراعي الانقسام الحاد في المجتمع وأن يكون لها دور مجتمعي أكبر، والحاجة إلى تشريعات تحافظ على مكتسبات العمال والفلاحين في مقابل قطاع خاص يجب أن يكون له دور مجتمعي أكبر إذا أراد أن يكون له دور في مصر الجديدة.

الإجراءات الاقتصادية القوية للدولة المصرية بعد أزمة كورونا يجب أن تجعلنا ننصت جيداً لصوت العقل وأن لا ننساق وراء الدعوات التي تدعو إلى تحويل مصر إلى دولة رأسمالية بدون مراعاة البعد الاجتماعي والتي ستجعلنا جميعاً أمام مستقبل مجهول.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

ياسر رافع
كاتب مصري مهتم بالسياسة
كاتب مصري مهتم بالسياسة
تحميل المزيد