نحن الأطباء لا نخاف بسهولة.. لكن هناك كابوس نعيشه لا تعلمون عنه شيئاً

عدد القراءات
5,496
عربي بوست
تم النشر: 2020/04/09 الساعة 15:53 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/04/09 الساعة 17:08 بتوقيت غرينتش
نحن الأطباء لا نخاف بسهولة.. لكن هناك كابوس نعيشه لا تعلمون عنه شيئاً

لا نرى كل يومٍ مثل هذا الوباء، ربما نحتاج قرناً أو قرنين من الزمان، حتى نرى وباء ينتشر بهذه السرعة حول العالم، ويمتلك هذه القدرة الفتاكة على حصد الأرواح وإنهاك الأجساد. عندما كنت طالباً في كلية الطب، كانت فكرة الوباء مجرد كلمات مروِّعة ومخيفة نقرؤها في كتب المؤرخين، لنأخذ منها العبرة ونستخلص الدروس. لكنني لم أتخيل يوماً أنني سأكون واقفاً هنا، في خط الدفاع الأول عن البشرية، للذود عنها في مواجهة فيروس غامض وقاتل يدعى كورونا.
ما أودُّ تذكيركم به، هو أن الأطباء ليسوا آلات، بل بشر، لديهم أُسرهم وأحلامهم ومخاوفهم الطبيعية كما عِلمهم ومهاراتهم وخبراتهم. عندما أفحص مريض كورونا، يتملكني دافع المساعدة وبذل كل ما أستطيع من جهد، واستخدام كل ما أمتلك من علم طبي لإنقاذه وتحسين حالته، وإعطائه كل الدعم النفسي الممكن. لكن وفي الوقت نفسه، لا تتبخر هواجس ومخاوف الإصابة وانتقال العدوى إليّ أمام الشعور الحثيث بالمسؤولية والواجب تجاه المريض. إذ إن انتقال العدوى لا يحتاج إلا كحةً مفاجئةً من مريض لا يرتدي واقي الوجه، أو أن ينطلق الرذاذ من فمه رفقة كلماته صوبي. هذه الاحتمالات والأسئلة والهواجس لا تفارق رأس الأطباء وأطقم التمريض، بل كل العاملين في قطاع الصحة بالعالم.
العالم يسمع ويشاهد ويقرأ أخبار كورونا، ويطَّلع على آخر التطورات والمستجدات. هذه الدولة ارتفعت فيها أعداد الضحايا والمصابين لمستوى قياسي، وتلك بدأت تسيطر على الوضع إلى حد ما، وفي أخرى تضاعف عدد المرضى ووصل الوباء إلى ذروته. وإن كان البشر يقرؤون ويشاهدون هذه التفاصيل، فإننا -أي العاملين في القطاع الصحي- نعيش هذه الحقيقة، نغوص في تفاصيلها، نحارب مصدرها، محاولين وضع حدٍّ لها. نحن من نرى المرضى وهم يفزعون بعد تأكيد إصابتهم بالمرض، نحن ناقلي أخبار المرض والموت، ونحن من نعرف ونشهد على المعاناة والألم، ولحظات الانهيار الجسدي للمرضى الذين يفتك بهم الفيروس دون رحمة.
منذ التحاقي بكلية الطب، علمت أن الأمر لن يخلو من المخاطر، وأن الخوف يجب ألا يكون سيد الموقف، لكن أمر كورونا مختلف. الضرر إن وقع فلن يقتصر عليّ، بل سيطال كل من أتعامل معهم. لن أجمِّل الواقع، أنا خائف مني على عائلتي… أتساءل: ماذا لو نقلت المرض إلى زوجتي؟ أبنائي؟ أبي أو أمي؟ ماذا لو أنني أنقل الفيروس في الأنحاء دون أن أشعر. كل لمسة في المنزل تصاحبها لمسة خوف لها صدىً بعيد في نفسي. لست قادراً على ضم أبنائي وزوجتي إلى حضني، ولم أعُد أُقبِّل أبي وأمي. 

لذلك يعزل كثير من الأطباء أنفسهم عن عائلاتهم طواعية. فبعضهم يفترش أقبية المنازل، ولا يرون زوجاتهم وأبناءهم إلا النزر اليسير. وآخرون حوَّلوا مرآب السيارات إلى غرفة نوم، يجاورون فيها المحرك والعجلات. يفعلون ذلك وأكثر، لأن الخوف من نقل العدوى إلى أحبائهم لا يفارق رؤوسهم.
أيضاً، في الصباح، وأنا متوجه إلى المستشفى، أرتدي زياً أغيّره بآخر بمجرد دخولي، ثم وأنا مغادر أرتدي زياً آخر غير الذي جئت به إلى المستشفى صباحاً، وعلى أعتاب المنزل أغيّر ذلك الرداء مرة أخرى. كل هذه التفاصيل والمعاناة لا يمكن الفرار منها، فالدافع والوازع الأخلاقي والشعور بالمسؤولية تجاه المرضى والعالم في هذه اللحظة التاريخية، يجبرني كطبيب على الاستمرار في القتال. الاستمرار حتى ولو تساقط زملائي أمام عينيَّ بالفيروس، فاستمراري في العمل دون تراخٍ، هو طوق النجاة الوحيد الذي يمكن تقديمه لهم. لديَّ صديق مقرّب، وهو طبيب يعمل معي في المستشفى نفسه أصيب بكورونا، وممرض لديَّ معه صولات وجولات مات بالفيروس، ولم نستطع إنقاذه. في مثل هذه الأجواء والظروف، فإنك ترى أصدقاء وزملاء، أبطالاً بكل معنى الكلمة، يتساقطون تحت ضربات الفيروس. يتساقطون وهم يؤدون عملهم وواجبهم على أكمل وجه. وهؤلاء الأبطال ليسوا الأطباء والممرضين فقط؛ بل جميع المتداخلين في عمل القطاع الصحي؛ مسؤولي النظافة والتقنيين وأفراد الأمن وغيرهم.

غرف الكآبة المطلقة

يدب الخوف في أوصال زائري المستشفى بمجرد سماع كلمة "كورونا أو كوفيد-19″، وفي حال طلبت إجراء تحليل الكشف عن الفيروس، ينتابه الذعر والهلع من مجرد احتمالية حمله للفيروس. كثيرون يأتون المستشفى يعانون من عرض أو اثنين، لكنهم لا يدركون أن هذه الأعراض هي أعراض كورونا ولا يتوقعون إصابتهم به. وهؤلاء ينهارون في حال تم تأكيد إصابتهم بالمرض. تكون لحظات عصيبة للغاية على الجميع، لحظات لا أتمنى لأحد أن يمر بها يوماً.

وبمجرد الشك في الإصابة تبدأ إجراءات العزل الصحي، وتجرى التحاليل والفحوصات اللازمة، ويبقى المشتبه بإصابته في العزل حتى ظهور نتيجة. وإذا كانت النتيجة إيجابية، يبقى المريض في غرفة العزل.. وهذه حقيقة ووضع يصعب على المريض تقبُّلهما بسهولة. وهنا تظهر أهمية وحدات الدعم النفسي للمرضى، وما تقدمه من خدمة نفسية لهم تساندهم في مواجهتهم مع المرض، خاصة من خلال تذكيرهم بآيات وكلمات الرحمة والقدرة الإلهية على كل شيء من الكتب والأديان التي يعتنقونها. وهو ما يكون له عظيم الأثر على نفْس المريض، فتتنزَّل عليه سكينة وطمأنينة تعضد من قوته وجلده وصبره. وهذا الدعم ليس حصراً على المرضى، بل للقابعين في منازلهم بسبب الحجر الصحي المفروض في جميع الولايات الأمريكية، فكثيرون خسروا وظائفهم، وتقطعت روابطهم بأهلهم، وأثّر المكوث في المنزل سلباً على حالتهم النفسية، لهؤلاء أيضاً يقدَّم الدعم النفسي. 

لكنَّ الوضع ليس سهلاً على المرضى، خاصة بعد انتقالهم إلى غرفة العزل، تلك الغرفة كئيبة للغاية. كل من يدلف من بابها يدخل ملثَّماً تماماً من شعر رأسه وحتى أخمص قدميه. كل من يلج إلى الغرفة، يدخل مرتدياً زي حماية كاملاً، يغطي الشعر والعينين وفتحتي الأنف والفم والرقبة. جميع من يدخل يعامل المريض، عن دون قصد، كأنه مصدر وبؤرة لانتشار الفيروس. أبواب تلك الغرف مغلقة طوال اليوم، وأي شيء يلمسه المريض يتم التخلص منه فوراً ولا يلمسه أحد بعده أو يتم تعقيمه وتطهيره لساعات طوال.
وهو ما له عميق الأثر النفسي السلبي عند المريض. لكن ما باليد حيلة.

كما أن الزيارات ممنوعة تماماً للمرضى، فلا يُسمح لأهلهم أو أصدقائهم بزيارتهم أو رؤيتهم بأي شكل من الأشكال. طريقة التواصل الوحيدة هي إما الاتصالات الهاتفية وإما عبر تطبيقات المحادثة المختلفة، وهو ما يعمِّق شعور المريض بالعزلة والغربة في معزله الاضطراري.

هذا كله فضلاً عن المعاناة والألم الجسدي المرافق للمرض. 

ضغط غير منقطع 


الطواقم الطبية في العالم تحت ضغط شديد. هناك عديد من التفاصيل الصغيرة، لكن ماسّة الأهمية، التي يغرق فيها العاملون يومياً. على سبيل المثال، إذا أردت مدّ مريض كورونا بجرعات محددة من سوائل معينة عن طريق الوريد. فإن هذا يستدعي تعقيم كل ما لمسه المريض باستمرار. عملية التعقيم تلك تستغرق قرابة ثلاث ساعات حتى تصبح الأدوات صالحة للاستخدام مرة أخرى. يحدث هذا في ظل ازدياد توافد المرضى على المستشفى وتضاعف الحاجة لتلك المستلزمات. وهذا ينطبق على الأجهزة كافة من جهاز صغير مثل المستخدم في قياس الضغط، وحتى أجهزة كبيرة الحجم مثل جهاز الأشعة المقطعية.
كما أن لباس الوقاية الذي نرتديه مزعج ومقيّد للغاية. الكمامات تعيق عمليتي الشهيق والزفير، وقد تسبب ضيقاً في التنفس. وحامي الوجه والنظارات الواقية يسببان ضغطاً وألماً يصعب تحملهما.
لكن ما يسبب ألماً أفظع وأشد عند الأطباء، هو عدم توافر الدواء المعالج للمرض بشكل كامل. هذا شعور جدّ صعب، خاصة عندما يبذل الطبيب كل ما يملكه من علم وخبرات، دون أن يحوّل المريض إلى حقل تجارب، ودون أن يطرأ أي تحسن ملموس على صحة المريض.

كذلك التغير المستمر في الملاحظات الطبية التي تسجَّل عن تعاطي المرضى مع الأدوية، ومدى تحسُّن حالتهم أو تدهورها، يسبب بعض الارتباك عند الطاقم الطبي بأكمله. لذلك وبعد أن ينتهي دوام العمل بالمستشفى، يبدأ كل منا في متابعة أجدد الدراسات والأبحاث المنشورة عن الفيروس وبروتوكولات العلاج الفعالة التي يمكن اتباعها، من المنزل. هذا كله يسبب ضغطاً شديداً على الأطباء، بدنياً وذهنياً. 

القرار الأصعب

هنا، في أمريكا، النظام الصحي يعتبر أحد أفضل نظرائه بالعالم، ومضرب مَثل في القدرة والتطور والكفاءة. مدينةٌ مثل نيويورك يوجد بها 170 مستشفى. وهذا رقم غير موجود في بعض الدول. ورغم ذلك هنالك معاناة كبيرة جداً في القطاع الصحي، لأن عدد المرضى المضطرين إلى الذهاب للمستشفيات أكبر من الطاقة الاستيعابية لها. لذلك قامت الحكومة الفيدرالية ببناء عديد من المستشفيات الميدانية وإضافة آلاف الأسرَّة للطاقة الاستيعابية للقطاع الصحي. أما في ولاية ميشيغان، حيث أعمل، يمكن القول إننا لم نصل إلى الحد الأقصى من الطاقة الاستيعابية للمستشفيات بعد، ورغم ذلك أستطيع القول إننا نقترب وبسرعة من تلك اللحظة، الأسرَّة تمتلئ بسرعة كبيرة للغاية. وخلال 10 أيام إلى أسبوعين، ستصل المستشفيات إلى الحد الأقصى لها. ولذلك شرعت الحكومة الفيدرالية في بناء مستشفيات ميدانية ومدّها بأجهزة التنفس وبقية المستلزمات في أرجاء الولاية كافة، وذلك لأن الحاجة أكبر بكثير من الموجود.
وأهمية توافر أجهزة التنفس تكمن في أنها قادرة على إبقاء المريض على قيد الحياة، وإذا نقصت الأجهزة عن الحاجة، فسنكون أمام قرار صعب للغاية.. من يوضع على جهاز التنفس ومن يُترك ليصارع القدر والموت وحده؟
أتمنى من كل قلبي ألا نصل إلى تلك المرحلة وألا نوضع كأطباء أمام هذا الاختيار القاسي. صحيح أن هذا القرار يؤخذ بناء على عدة عوامل مثل عمر المريض وفرص نجاته، لكن يبقى هذا السيناريو هو الكابوس الذي يهرب منه كل طبيب. ولذلك يجب العمل، فوراً، على توفير أجهزة تنفس تغطي توقعات أرقام المرضى المحتملين في الأسابيع والشهور القادمة. لكن مجرد التفكير في مثل هذه الأمور والمواقف، أمر شاق للغاية.

أجهزة الحماية كذلك كان بها نقص كبير في البداية، لكنها الآن متوافرة بشكل أكبر. وهذه الأجهزة مهمة جداً لحماية الطاقم الطبي وضمان استمرارية عمل القطاع الصحي بكفاءة عالية وعدم انهياره. لكن الحقيقة، أن أرقام إصابات العاملين بالقطاع الصحي كبيرة للغاية، هنا في أمريكا، وبالعالم على حد سواء.

الأمل قائم وكبير 

بصراحة، نحن الأطباء لا نخاف بسهولة، لكن ما أراه اليوم لم أره في حياتي من قبل. ولا أخجل من القول إني خائف. لكن كل ما ذكر في هذه السطور لا يُذكر أمام معاناة المرضى وذويهم.

لا أودُّ تصدير اليأس، بسبب عدم وجود علاج للمرض، إذ إن هناك عديداً من الأدوية الفعالة والمبشِّرة ضد الفيروس. كما أن هناك عديداً من اللقاحات الواعدة للغاية التي أُجريت عليها التجارب السريرية الأولى، وقريباً تنطلق التجارب السريرية الثانية.

الأمل موجود وكبير في قدرتنا على السيطرة على هذا المرض.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عبد الحفيظ شرف
أخصائي الأمراض الباطنية في مستشفى Henry Ford بولاية ميشيغن الأمريكية
أخصائي الأمراض الباطنية في مستشفى Henry Ford بولاية ميشيغن الأمريكية
تحميل المزيد