ا وجود لشخص عظيم دون بعض جنون.. إنه أحد الاستنتاجات الفلسفية المُغرقة في تفسير العلاقة بين العبقرية والجنون. المنشود من العباقرة أن يكون في عقولهم ما يخلص الناس إلى التعبير عنه بالجنون، أو ربما الوسوسة كنتيجة نهائية، إذ قد تعجز الفلسفة عن تحديد ماهية جنون بشكل كامل.
هل هو شكل من أشكال خسارة جزئية للعقل؟ أم أن المجنون قد يكون خارجاً عن سياق المنطقية؟ هذه النظرة الفلسفية للجنون قد تجمع بين شيئين، إما الذهاب دون عودة للعقل، أو مارسيلو بييلسا، أن يضطلع الجنون بعبقرية في عقل شخص ما.
على حدود الكمال
رحلة تشيلي العميقة في عمق مجمع خوان بينتو السعي نحو إعادة هيكلة بنايات نادي مارسيليا، النظرة اللامعة إلى مركز تدريبات ليدز، أن تجتاز حدود كرة القدم السطحية إلى تطوير كل ما له علاقة باللعبة للوصول إلى أفضل هيئة ممكنة لكل الأشياء والظروف المحيطة بالنادي واللاعبين.
ليست تلك الأشياء وحدها التي تطغى على عقلية بييلسا، لأن كل تفصيلة مهمة. من التدريب الصباحي إلى آخر جزء.
محاولة طرد الإعياء من أجسام اللاعبين مهمة مقدسة، الوزن يختزن أهمية كبرى، هناك موعد صباحي لحساب كل المتعلقات بصحة اللاعبين، إضافة بعض الغرامات تعني عقوبةً فورية، حتى الهبوط قد لا يعني الهروب من العقوبة.
هذه الأساليب المقدسة من بييلسا تسعى إلى الشكل المناسب، سواء أكان ذلك دأباً شاقاً في الذهنية العامة، أم في الطرق التكتيكية، أو هرولة نحو رقابة كل جزئية خاصة بلاعبي الفريق. من هنا يبدأ مارسيلو بصناعة الفارق في كل تجربة يخوضها، المناخ وصناعة لعبة خاصة وإيجاد الجو المناسب، هي أولى عتبات الجنون بعد التوقيع على العقود.
جنون عظمة ملموس
هذه العبقرية المختلطة بجنون العظمة قد تعيد صياغة هذه الأخيرة فلسفياً، لأن الشعور بالعظمة عند بييلسا غير مرتبط بالخيال. قد لا يعني ذلك بشكل مباشر أن هذه الصفة قد تولد عند بييلسا التعالي، بل العكس هو الذي يحدث أن يكون كل المتعلق بك مقدساً، فيما قد يبدو للبعض ما يقدم بييلسا على التعبير عنه مجرد خيال محض.
لأن الوصول نحو البحث عن تثبيت أسلوبك كالمقدسات هو جنون عظمة بالفعل، فهو يعتبر -أي بييلسا- أن النجاح يتعلق بالطريقة التي يحبها دون تغيير على جزئياتها. وذلك ما يخلق له مشاكل متكررة، كالاستقالة من أعلى دفة مارسيليا لأمور بسيطة يعتقدها هو في عقليته على أنها سبيل إلى إسقاط قاعدة من أسلوبه.
ورغم كل هذه القصص بنفس السيناريوهات، فإن مشروع ليدز الحالي كان مجنوناً للغاية بقيادة الرئيس الإيطالي أندريا، فجلب بييلسا لن يكون لقمةً سائغةً كما حكى رئيس ليدز، كل الشروط توفرت إذعاناً لقرار مفاجئ لبييلسا، كالاستقالة بعد ساعات أو بعد أسابيع، هذه الأشياء المحيطة أظهرت لنا جنون عظمة بييلسا الملموس في كل أماكن مدينة ليدز.
ما بعد العبقرية
بييلسا شخص عملي للغاية، ربما هو عبقري، أو جنّي مصباح علاء الدين. لقد صنعت لنا الأفعال عبقرية شخص لا حدود له، يقضي اليوم كله في مجمع التدريب، في أحضان التفاصيل الملقاة على طاولة المكتب، يذهب صباحاً ولا يعود إلا ليلاً، يصرخ على الأخطاء، ويعيد ترتيب الخطوط.
في إحدى الوقائع المشهورة لك أن تصدق أن بييلسا في زمن بلغ ثلاثة أشهر، قضى بسيارة فيات 167 رحلةً طويلةً، فاقت الثلاثة والعشرين ألف ميل؛ بحثاً عن المواهب الكروية في شتى أنحاء مقاطعات الأرجنتين، كان مهووساً بالجري خلف من يلعبون الكرة بشكل خارق، كان يؤمن أن صناعة الكرة عليها أن تصل إلى شكل مثالي من خلال المواهب.
هذه الرحلة بالتحديد أفرزت من خلال بحث مضنٍ العديد ممن بلغت أسماؤهم المجد، إما كلاعبين أو مدربين، غابرييل باتيستوتا، أو ماوريسيو بوكيتينو بتوصية من صاحب مطعم محلي كانت حظوظهما عاليةً بأن يختارهما مارسيلو ثم يتبناهما فيما بعد.
لا يرى الأموال
نشأ بييلسا في حي راق وعائلة ثرية، ورغم ذلك لم يكن مادياً يوماً. في مرحلة ما تخلى بييلسا بشكل مباشر عن سبل الراحة، وإلا لكان قد اختار طريقاً مختلفاً عن التدريب.. مارسيلو رجل التحديات الصعبة.
في هذه القطعة هناك مثالان حقيقان؛ بييلسا مارسيليا، وبييلسا ليدز، الأول كان قد دفع مليوني دولار لتحسين جودة مرافق تطوير لاعبي مارسيليا، ومن هنا يتحدد لنا بييلسا الذي لا يسعى خلف المال، أما الثانية فهي دفع مئتي ألف جنيه إسترليني، بعد تغريم اتحاد إنجلترا لليدز في حادثة التجسس الشهيرة.
الشيء الإضافي أن توقيع بييلسا لليدز لم يتعلق بقيمة المال أو العرض المتاح بعد تحقيق النجاحات، بل كان مبنياً أساساً على تاريخ النادي، على علو سقف التحدي، على جنون جماهير المدينة، على الثقافة. الشغف هو الذي دفع بييلسا نحو مدينة ليدز، ينعكس ذلك مباشرةً على حب مشجعي ليدز لبييلسا، يكفيك أن تشاهد لمعة أعين عاشقي ليدز وشغفهم نحو الفريق قبل وبعد بييلسا.
الجواب الفصل
جنون عظمة، أم جنون مثالية، أم أن هناك عبقرية غير محدودة في رأسه؟ أعتقد أنك تملك الإجابة، بييلسا عبقري، مجنون، ومثالي، يسعى نحو الكمال بسبل ملموسة محسوسة غير متعلقة بالخيال إطلاقاً.