ظاهرها العذاب وباطنها الرحمة.. ما الخيرات التي جاءت بها الجائحة؟ (2)

عدد القراءات
4,896
عربي بوست
تم النشر: 2020/04/08 الساعة 11:49 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/04/08 الساعة 11:49 بتوقيت غرينتش
ميركل تتوسط ترامب وماكرون / أرشيفية

في الجزء الأول من مقال "ظاهرها العذاب وباطنها الرحمة.. ما الخيرات التي جاءت بها الجائحة؟" تكلّمنا عن الفوائد التي جلبها فيروس كورونا للعالم رغم بشاعة نتائجه الظاهرة، والمخاوف التي تُصدرها وسائل الإعلام وقادة السياسة والطب. وتناولنا الفوائد التي عادت على الفرد والأسرة والمجتمع من هذه الجائحة، من اجتماع للأسرة التي فرّقتها الحداثة والرأسمالية، والفرصة التي أتاحتها الجائحة لتعليم الأبناء القيم المؤسسة على تعاليم الدين، لبناء عقلية نقدية ميزانها ما يُرضي الله وينفع البشر. بعيداً عن المادية النفعية التي تعلي الأنا، ولا تنظر لمصلحة الجماعة، كما استطاعت الجائحة أن تهذب مفهوم الليبرالية والحريات الفردية، فقبلت الضوابط التي تضعها الدولة لتنظيم حياة أفراد المجتمع، حتى لو طبقت تلك الضوابط بالقوة الجبرية.

انهيار الأساطير

في هذا الجزء سنتناول الفائدة التي أنتجتها الأزمة على مستوى الدول، فقد استطاعت الجائحة أن توقف ذلك الطغيان المعرفي المغرور الذي دفع الناس إلى الاستغناء والاستعلاء. فلقد فشلت النظم الصحية العريقة في مجابهة الفيروس القاتل، وأظهرت المأساة ضعف تلك المنظومات، ومن ثم ضعف الخطط التي أُعدت مسبقاً لمواجهة الكوارث. فالتخبط هو سيد الموقف، ولم تستطع الخوارزميات أن تحل معضلة كورونا في تلك الدول، وهو ما جعل الجميع يقف ملياً عند حدود تطلعاته اللامحدودة بالنظر إلى نفسه كمدبر، كما كشفت الأزمة تلك الثقة التي يتكلم بها العلماء قبل الساسة ويصدقها العامة، لقد استطاع الفيروس أن يعيد النظر في هوامش تلك الثقة، ويؤكد ضعف المخلوق أمام قدرة خالقه.

حتى الاستراتيجيات الصحية المتمثلة في سياسة القطيع، التي تبنتها أغلب دول الغرب، كشفت مدى خواء النظرية الرأسمالية الليبرالية، فسياسة القطيع التي بنى عليها كثير من دول الغرب استراتيجيتهم تقوم على أن يُصاب الجميع ليتحصن الجميع، ولن يبقى إلا الأقوى. هذه النظرية الأنانية مبنية على فكرة الرجل الأبيض القوي. وعلى الرغم من انتهازيتها فإن الغرب يعتنقها، وهم في ذلك ينظرون إلى الإنسان كقوة محركة ومنتجة، فالإنسان في نظرهم أداة، لكن السؤال الذي لا يجيب عنه أصحاب الفكرة، والذي لا ينتبه الناس في تلك المجتمعات لسؤالهم عنه: ذلك الإنسان المصنف كقوة محركة ومنتجة، يُنتج لمن؟!

والإجابة مستقاة من تلك المدينة الفاضلة التي بشَّر بها أفلاطون، والتي بنى طبقاتها المجتمعية على ثلاث طبقات، تخدم فيها طبقة العمال الحكام، كما يحميهم طبقة الجند فيها، إنها الرأسمالية ونظرتها للإنسان، لكن الغرب لم يدرك أن طبقة الشباب القوية لن يبقى منها بعد الجائحة الكثير، لأن عدد ساعات العمل والتغذية غير الصحية المبنية على الوجبات السريعة عالية السعرات الحرارية أنهك أجساد الشباب، وأصبحوا نهباً للفيروس، لذا فإن من خيرات الفيروس على البشرية أن أدركوا ذلك وبدأوا بفرض الحظر الصحي لإراحة تلك القوى المنتجة. 

هذه الحالة التي أحدثها فيروس كورونا جعلت نظرة الرأسمالية للإنسان تتراجع، النظرة المبنية على الأخذ حتى يرى عطاء الدولة، أو بقدر ما تملك يمكن أن تأخذ.

فقد بدأت النظم الرأسمالية في اعتماد المعونات العاجلة للمؤسسات والأفراد، وهو الدور الذي كانت تلعبه منظمات المجتمع المدني، تلك الفكرة التي أسس لها متوحشو الرأسمالية، للتخفيف من وطأة مصِّ دماء المواطن. وعليه فقد انهارت فكرة العولمة بمفهومها الغربي، بعدما أظهرت أنانيتها وتقوقع كل بلد في حدوده وتمحوره حول ذاته. كما أن البعض يرى أن فكرة الغرب القادر والفاعل والمدبر والمخطط للعالم قد انهارت، مع فشلها هذا في مواجهة القاتل التاجي، فالوباء أظهر أن أوروبا وأمريكا اللتين تمثلان قوة اقتصادية عالمية بات من المحتمل أن تلتحقا بصفوف الإمبراطوريات العالمية الكبرى، التي كان مآلها السقوط. لكن هل الغرب القوي الذي أسقط كل نظير سيسقط من أجل عدم إمكانية توفير كمامة الوجه!

أكثر من مجرد كمامة 

يبدو أن الأمر أبعد بكثير عن كونه يتلخص في كمامة وجه أو جهاز تنفس أو حتى لفكرة المادية بأكملها، وإن كان توفير المستلزمات الطبية في فاجعة كبيرة كالتي يعيشها العالم مهماً، فإن السقوط الأخلاقي الذي يعيشه الغرب منذ أن بات القطب الأوحد، أو ربما قبل ذلك، هو العامل الأهم في قرب انهيار إمبراطورية الغرب الفكرية الاقتصادية والسياسية، وحتى العسكرية التي تحكم العالم.

لكن ماذا لو سقطت الإمبراطورية التي تحكم العالم، هل سيعيش العالم فراغاً، أم أن الصين كما يرى البعض مرشحة لملء الفراغ؟

الصين قوة اقتصادية كبيرة لا شك، لكن أزمة العالم الآن هي أزمة مبادئ وأخلاق أكثر منها أزمة مادية اقتصادية، مع ذلك لن تستقيم الحياة إلا بأسباب القوة. فصراع الإنسان ليس مع أخيه الإنسان، ولكن مع الطبيعة التي أفسدها نمط الحياة التي فرضها طمع الغرب في الاستحواذ والتملك، دون النظر إلى التوازن والتوزيع العادل بين مكونات هذا العالم.

 لذا فإن الكثير يتحدث الآن عن البديل الأمثل لما تعيشه البشرية الآن، والفراغ المحتمل، في أن الإسلام هو البديل الأمثل، لكن الحديث عن أن الإسلام هو البديل المنتظر لملء الفراغ المتوقع فيما لو انهار الغرب القابض على مقاليد العالم الآن، يحتاج إلى نظرة عميقة، وهو في ذلك ممكن، لكن التفاصيل تعني الكثير، ولأن الموضوع يحتاج تفصيلاً فستكون لنا وقفة على فرضية أن يكون الإسلام هو ذلك البديل في حال أتيحت الفرصة.. فإلى نقاش هذه الجدلية في مقالنا القادم.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

ياسر عبدالعزيز
كاتب وباحث سياسي
ياسر عبد العزيز هو كاتب وباحث سياسي، حاصل على ليسانس الحقوق وماجستير في القانون العام. كما حاز على دبلوم الإدارة والتخطيط الاستراتيجي، وهو الآن عضو مجلس إدارة رابطة الإعلاميين المصريين بالخارج في اسطنبول ومدير مركز دعم اتخاذ القرار بحزب الوسط المصري.
تحميل المزيد