تسريح موظف تعرفه، وحالة انعدام اليقين بشأن توافر الدخل مستقبلاً، ومنتجات نظافة ووقاية لا يستطيع تلبيتها الدخل العادي، ومقايضة على حياتك بالانعزال في البيت وضياع الراتب، أو الذهاب للعمل وزيادة فرص إصابتك… إلخ، هذا هو ما رفض العديد معرفته عن الحياة في ظل الرأسمالية، واليوم سيعيشه العالم أجمع.
يقول سلافوي چيچك في تعليق له:
"الغرض ليس الاستمتاع السادي بانتشار المعاناة ما دامت تخدم قضيتنا، بل على العكس، الغرض هو التفكير في الحقيقة المحزنة، المتمثلة في حاجتنا لكوارث كهذه، كي تدفعنا للتفكير في السمات الأكثر بداهةً وأساسيةً لمجتمعاتنا".
ما هي الحقيقة المحزنة؟!
تبدو الحياة واحدة، الشمس تشرق على الجميع، والمطر أيضاً ينزل على الجميع، ولكن هناك من يعمل خلف شاشة جهاز إلكتروني في حجرة مكيفة ومجهزة، وهناك آخر مهنته عامل بناء تحت الشمس، هناك من يستقبل المطر في كومباوند بشبكة صرف مجهزة وطرق ممهدة، وآخر يعيش بالعشوائيات في بيوت من الصفيح تغرق في خليط من مياه الأمطار ومياه الصرف الصحي!
فالحياة ليست واحدة، وهذا ما يخبرنا به الواقع الذي برغم تعدد أشكال وجوده وتقسيماته وتصنيفاته فإنه يظل واقعاً طبقياً، يتحدد فيه وجودك بانتمائك الطبقي، وحين يأتي المرض فهناك من يستطيع الإنفاق الصحي من خلال شركات التأمين العملاقة أو المردود المادي الذي يضعه تحت أيدي كبار الأطباء والاستشاريين في أرقى المستشفيات ودور العناية الفائقة، وهناك من يفترش طابور الأدوار للحصول على كشف مجاني في أحقر المستشفيات العامة.
واليوم يجتاح العالم وباء كورونا، في ظل واقع مُشبع باللاعدالة واللامساواة والتقسيم الطبقي الفج، عالم يقع في تناقض صارخ بين الإمكانات المتاحة من الموارد والتقدم العلمي والتكنولوجي من جهة، واللاعقلانية التي تحكم مجتمعاً يقوم على السعي الدائم وراء الأرباح من جهة أخرى.
فالحقيقة المحزنة أنه تم تركنا وحيدين من دون وظيفة مستقرة وراتب مجزٍ وتأمين وضمان اجتماعي وسياسيين وممثلين اجتماعيين، وحيدين في المواجهة.
مواجهة غير عادلة
بعدما تم حصر الفرد في معارك آمنة بإشغاله بقضايا الرأي العام التجارية والمواضيع والترندات التافهة، وخلق حالة عامة من اللامبالاة تغذيها الدعاية الأيديولوجية السائدة، وروح مجتمع الاستهلاك المنزوع منه الذوق والقيمة والجدوى، يتم اتهام المواطن بافتقاده للذوق وانعدام حس النظافة الشخصية والأخلاقيات العامة وثقافة التعامل مع كارثة… إلخ من الصيغ والمسميات التي هي في الأصل نتاج سيل من السياسات التي وحّدت المواطن في ركن معزول من عالمه، في وقتٍ وظرف لا يوجد أمامه سوى النجاة بنفسه وبعائلته إن تمكن.
بتغييب حس التضامن الاجتماعي والإنساني، وحل التنظيمات والأحزاب والجمعيات والنقابات وأي كيان ينظم الأفراد اجتماعياً لصالح سياسات فردية وأوامر للأفراد بالانعزال والتهميش والتفكير فرادى، وثقافة توحدية تُزرع بالطفل بألا يفكر إلا في نفسه ومستقبله وحياته الخاصة، بألا تنشغل بالآخرين خشية أن ذلك يعطلك، وألا تفكر في الآخرين خشية أن ذلك يسجنك أو يشردك.
فحين يقول أحدهم:
"علي الجميع أن يتعامل بشكل كذا أو كذا…"، وتنهال التعليمات والإرشادات من الجهات والمؤسسات تجاه الأفراد، فلا بد أن نكون واعين حقيقة أن هؤلاء الأفراد مقسومون طبقياً، وحقيقة أن الطبقات الأفقر غير مهتمة أو عابئة باحتياطات السلامة، ليس لشيء سوى أن طابع حياتهم يدفعهم لذلك، أكانت طبيعة عملهم أو مواردهم المادية القليلة التي تلقي بهم يومياً في المواصلات العامة والازدحامات، أو كان دخلهم البسيط المستحيل أن يغطي احتياجاتهم الأساسية من طعام وشراب وسكن ومياه وكهرباء، ليغطي استخدامهم للمنظفات والمعقمات… إلخ.
فحين يُطالَب ملايين ممن يبيعون أوقاتهم يومياً للراتب الشهري بالالتزام بتعليمات وإرشادات معينة للمواجهة، وبالفعل هي تعليمات سليمة وصحيحة، لكنها تغفل حقيقة أنها تتعارض مع طبيعة حياتهم وظرفهم الموضوعي وبيئتهم الاجتماعية التي كوّنتها مجموعة من السياسات وأنماط التقسيم الطبقية دفعتهم لاحتلال بدروم المجتمع، فهذه ليست بمواجهة، بل مقايضة على حياتهم، إما بالانعزال في البيت وضياع الراتب، أو الذهاب للعمل وزيادة فرص الإصابة بالمرض.
أزمة داخل أزمة
ما زالت هناك قطاعات كبيرة من الطبقة الوسطى يخالطها التردد والشك بالطبع، فهناك وظيفة وراتب مكفولان، ويريدون الحفاظ عليهما، وتلك الفئات تبني دوماً أمانها المؤقت على قاعدة خوفها المستمر، خوفها من تعرُّضها للمزاحمة والمنافسة وفي النهاية الفقدان، وهذا الخوف هو نتاج تبنّيها لكافة الأفكار المُحافظة الاجتماعية، حيث شكل العائلة البطريركي الأمثل، التي تستثمر أبناءها في التعليم والحصول على شهادات، لتوظيفهم والتعويل عليهم لرفع الأسرة طبقياً، وعليه فهي طبقة متعددة المصالح وغير متجانسة بسبب تماهيها مع أنماط التفريد/فردنة المصالح: حيث مصلحة الشخص هي مصلحة ذاتية غير مرتبطة بالظروف الجماعية.
الطبقة الوسطى التي ينظر بعضها للفقير بعين من الازدراء بكونه فاشلاً وقدره أن يكون فقيراً، الطبقة الوسطى التي ترى الطعام والمأوى والتوظيف واقتناء الملابس والسيارات عبارة عن حقوق يكتسبها أي ناجح ومتطلع في سوق العمل، الطبقة الوسطى التي تتحدث عن الأذواق والجمال والمتعة والمزيكا والسينما ونمط الغذاء الصحي، وكيف أن غالبية الجماهير تفتقد لما سبق بسبب قلة الذوق أو انعدام حس الثقافة والرقي، في حين أن كل ما سبق هو مسلوب قصداً وعمداً من طبقات بعينها فقط لتسليعه، لذا فهي طبقة حاقدة على الأغنياء وتمقت الفقراء، ودوماً واقعة تحت طائلة الإغراء بالزيادات السنوية وخصومات البرندات المستوردة والتمتع بالقروض الشخصية، ولا تعرف سوى الصدقة والزكاة والتبرعات والإحسان كطرق وحيدة لكفالة الفقراء.
وفي مستوى أدنى هناك قطاعات أكبر وأكبر من الفقراء اللامُبالين الفاقدين لكل ثقة بالمجتمع والدولة، والذين انقطعت صلاتهم العضوية بالمجتمع الفوقي، يعيشون على هامش المدن والمراكز، حيث العشوائيات ذات الكثافة السكانية العالية والخدمات المتردية وقدرات مادية منعدمة على الصمود في ظل الحياة العادية، فيقعون ضحايا لعمل أو اثنين، أو ضحايا لدائرة الاستدانة، أو ينحرفون أكثر ويكونون ضحايا للجريمة.
لذلك في لحظات الصراع الكبرى لا يصطف الشعب صفّاً واحداً، ولكن ينشأ صراع ثانوي أو قبلي للمرحلة تلك:
صراع بين اللامجتمع "الطبقات المُهمّشة والمُعدَمة" والمجتمع "الطبقة الوسطى القادرة على الاستهلاك وممارسة شعائر الحياة"، صراع بين من ليس لديهم شيء ليخسروه وهؤلاء الذين لديهم أشياء لا يودّون خسارتها، بين هؤلاء الذين لا تربطهم مصلحة بالمجتمع وأولئك الذين لديهم المصالح العظمى وشبكة العلاقات والحياة.
كورونا كمأساة وكضرورة
معلوم جيداً ماذا تمثل الكورونا كمأساة، ليس فقط للانتشار السريع العابر للقارات وزيادة حالات الإصابة والوفاة.
ولكن لأن هناك أعداداً وإحصائيات أشد خطورة ورعباً تجعل من الحياة أكثر صعوبة في ظل ظروف استثنائية، فبحسب آخر التقارير للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا "الإسكوا"، فإن ما لا يقل عن 52 مليون عربي سيُعانون من نقص التغذية، في حين أنه طبقاً لمنظمة الغذاء العالمي فإن نسبة 75% من البشرية تعاني من سوء التغذية، في نفس الوقت كشف التقرير نفسه أن الدول العربية تخسر سنوياً حوالي 60 مليار دولار نتاج هدر الطعام!
نفس التقرير للإسكوا ينذر بانحدار حوالي 102 مليون عربي تحت خط الفقر، وخسارة ما لا يقل عن مليون و700 ألف وظيفة في العالم العربي، كما يتنبأ التقرير بتراجع الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية بما لا يقل عن 42 مليار دولار.
في الهند -إحدي الدول النامية وذات الكثافة السكانية العالية -فإن نسبة 60% من مواطنيها -أي حوالي 500 مليون مواطن تقريباً- سيكونون عرضة للجوع خلال شهر على أقصى تقدير، فماذا عن باقي دول وشعوب العالم الثالث؟!
في أمريكا -حيث مركز الرأسمالية العالمية- في أسبوع واحد تقدم 3 ملايين مواطن لطلب إعانات بطالة، وهذا الرقم يعتبر 5 أضعاف ما سجلته أمريكا في عام 1982.
كل هذا وأكثر يكشف لنا النتيجة المأساوية لأزمة الوباء العالمي، التي جرفت معها للسطح باقي الأوبئة التي ما زال يعيش معها مواطن القرن الحادي والعشرين: الجوع والتشرّد والبطالة، ولكنّ كورونا يصبح أيضاً ضرورة، لأنه معطى للمواطن العالمي ليستشعر الملايين عبر العالم ماذا تعني مقولة "أزمة عالمية"، ضرورة بقدر ما أجبرت كرة القدم والترندات والمواضيع التافهة ومظاهر الاغتراب على التوقف، ضرورة بقدر ما ستظهر للبشرية أهمية جماعيتهم وتضامنهم الإنساني من أجل عمل جماعي وثروة جماعية، ضرورة بقدر ما ستكشف بؤس واحتياج الملايين حول العالم للرعاية الصحية المجانية، ضرورة بقدر ما ستستدعي من مفاهيم حول تأميم المستشفيات وتوفير المنتجات والاحتياجات حسب الحاجة، ضرورة بقدر ما ستجذب الجماهير لكي يعرفوا ما يدور في عالمهم وأزمتهم في قلب السياسة العالمية، وكل معطى في حياتنا هو سياسي بالأساس، سيتم تسليط الضوء على النهب العام لطعامنا واحتياجاتنا الصحية والمعيشية، وبدلاً من كون الفرد رهن مأساته الخاصة، وبالتالي خَلاصه الذاتي، سنوضع جميعاً في حدود مأساة واحدة عامة، كما ستضع المالكين والمستحوذين على الثروات في أزمة أمام المسلوبين وعوام المعدومين، الجميع في مرمى الوباء، والفارق والحل هو سياسي، إما سياسة وبالتالي علاج وحياة تنتج لصالح الجميع، وإما سياسة تنتج على حساب الجميع.
في النهاية لا يمكن أن نعود للوضع العادي، لأن "العادي" الذي كنا نعيشه في الأساس هو تحديداً المشكلة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.