إن الليبرالية هي شرنقة الفردانية الحالية، يدعمها -عن جهلٍ وغباءٍ- ذلك الخطاب الإسلامي الرقيق الذي يدعو إلى كفِّ النفس عن كل ما هو سيئ وجلل في طريقها، فلا يتحتَّم عليها مواجهته ومشاركته في حيوات الآخرين وآلامهم ومصاعبهم كي لا نتأثر سلباً بذلك.
الشرنقة التي احتوت المرء في قالبٍ معزولٍ عن غيره من الإخوان والخلان والأحباب، فرسَّخت فيه الجبن والضعف والنمطيَّة، وضخَّمت داخله الهشاشة النفسية.
شرنقة رأسمالية بشعة، أفقدت المرء السوي إنسانيته، وأغرقته بوحل المادية ومطحنة التعليم والشهادات الأكاديمية وحتمية الإنجاز والترقي والتمركز حول الذات.
يتعجب المفكر والفيلسوف الفرنسي، چيل ليبوفتسكي (1)، قائلاً: "لكن مع ثقافة ما بعد الواجب، ستستحيل قيم الفردانية إلى أنانية، وتسقط في ملذَّات المطالب المادية، ولو على حساب الكرامة الفطرية للأنا، ففي المرحلة الأولى للديمقراطية، كان الانتحار مثلاً، لا مفكراً فيه، بل من المستحيل التفكير فيه، لأنه انتهاك لحقوق الذَّات، دائماً ما يُحاكم من زاويةٍ أخلاقيةٍ كفعلٍ لا أخلاقيٍّ، أمَّا وقد عانق الوضع ما بعد التخليقي، فإنه ارتبط بالتفسير النفسي له، لا يُنظر للانتحار بعد اليوم في كونه خرقاً لواجبٍ أخلاقيٍّ تجاه الذَّات، بقدر ما عُدَّ أمراً نفسيّاً دالّاً على شقاءٍ شخصيٍّ، "إنه يثير التساؤل أكثر مما يثير الإنكار، والتعاطف أكثر من النبذ"."
وعليه، إذا ما سقط المرء حيناً أو فقد السبيل أو أعرض فنأى بجانبه عن درب القطيع، انهالت عليه الجراح من كل جانب؛ بغض الأهل، وشماتة الأصحاب، وتهميش المجتمع. والنهاية؟ بئرٌ سحيقة من السوداوية والخوف والقلق وفقدان الثقة وضبابية الطريق وعبثية الحياة واختلال موازين الصلاح والفلاح، ونهايةٌ ذليلةٌ لروحٍ كرمها اللّٰه؛ لم يخلقها عبثاً، ولم يشأ لها أن تكون محض آلةٍ في صراعٍ عبثيٍّ حول المال والأعمال وهوس البحث عن المكانة.
ثم وإن الانغماس الشديد في المادية، يقابله ابتعاد عن روحانيَّة الدين، في المجمل، وقتل للقيم المتعالية للإنسان عن العالم الذي يعيش فيه، ثم فقده للشعور بالاندهاش لجمال الكون وعظمة تماسكه ودقة إتقانه. وكلما لهث المرء وراء شهواته واحتياجاته الطبيعانية فأصبحت شغله الشاغل، تجرع ذلَّ عيوبه ونواقصه، وانغمس كليَّةً في ملحمة التنافس والترقي أمام الناس؛ تلك التي تنبت من العدم وتنتهي إليه.
تنبت من العدم عبر استشعار الضآلة والنقيصة أمام تميز الآخرين وتجارب حيواتهم المختلفة، وتنتهي إليه عند محاولة سد ذلك النقص عبر الصعود والتميز باتباع نفس الوسيلة: الآلية المادية ذاتها. وبناء على ذلك، يمكن القول بأنه سيتجرد المرء رويداً من طبيعته الإنسانية التي تتعالى على ذلك التميز المادي المجرد، بالسمو الداخلي للروح والقلب معاً؛ وهو ما يحث عليه الدين من الأساس.
ويعبر عالم الاجتماع البولندي، زيجمونت باومان (2)، عن الآثار السلبية تلك الآلية المادية قائلاً: "الدافع التحديثي في أشكاله كافةً يعني النقد الإجباري للواقع، وخصخصة هذا الدافع تعني النقد الذاتي الإجباري الذي يتولد عن السخط الدائم وعدم الرضى عن النفس، فالفرد الحقيقي هو الذي لا يلوم أحداً على ما يعاني من بؤس وشقاء، ولا يبحث عن أسباب فشله إلا في كسله وبلادته، ولا يبحث عن حل إلا في مواصلة الجد والاجتهاد. العيش اليومي مع مخاطر السخط وعدم الرضى عن النفس ليست مسألة هيِّنة، فما دام الرجال والنساء منكبِّين على أشغالهم الخاصة، ومن ثم ينصرفون عن الفضاء العام الذي تتولَّد فيه تناقضات الوجود الفردي، فإنهم يميلون بطبيعة الحال إلى اختزال البعد المركَّب للأزمة حتى تبدو أسباب البؤس والشقاء قابلة للفهم والعلاج، فليست المشكلة أن الحلول التي تطرحها السير الذاتية صعبة وشاقة، فما من حلولٍ ناجحةٍ في السير الذاتية للتناقضات الجمعية، بل إن قلة الحلول الفعالة المتاحة لدى الأفراد لابد من تعويضها بحلولٍ وهميةٍ، بيد أن كل الحلول، الحقيقية والوهمية، حتى تكون معقولة وممكنة، لا بد من أن تتوافق تماماً مع التقسيم الفردي للمهام والمسؤوليات، ومن ثم يزيد الطلب على الشماعات الفردية التي يمكن للأفراد المرعوبين أن يعلِّقوا عليها مخاوفهم الفردية على نحوٍ جمعيٍّ، حتى ولو لوقتٍ قصيرٍ جداً".
إن الإنسان كائنٌ معنويٌّ مجبولٌ على الافتقار (3)؛ مهما حذق الحاذق، وتشدَّق المتشدِّق، وتألَّه المتألِّه، وألحد الملحد، سيعود دائماً وأبداً للبحث عن إلهٍ قويٍّ يفرُّ إليه ويسعى خلفه ويستجدي رحمته، لأنه ببساطة مجرد إنسانٍ فقيرٍ ضعيفٍ يبحث دائماً عن معنى لوجوده، عن خيطٍ رفيعٍ يتعلق به حين يتيه، وعن نورٍ خافتٍ يقوده إلى المعنى؛ مهما ادعى عكس ذلك أو حاول نكران حقيقته.
لذا فالإنسان الغربي على وجه الخصوص، وكذا المنبهرين به والمنساقين وراءه بلا تفكير، مهما وصل إلى الإشباع والاكتفاء المادي، ومهما بلغ من السلطة والقوة والنفوذ والغطرسة وتحكم الآلة ما بلغ، ومهما حاول إثبات جدارته كمعبود بذاته وانعدام حاجته لإلهٍ يسيِّره بتشريعٍ سماويٍّ يفوق قدرته، لن يكفَّ يديه عن محاولة التحايل على الدين باحثاً عن بدائل روحانيةٍ أخرى تغذِّي روحه وتملأ فراغاتها: من التأمل البوذي وعيش الحياة في البرية أو حتى التصومع في جزيرة بعيداً عن البشر، بدائل روحانيةٌ تسمح له بنمطٍ متحررٍ من القيود الدينية المفروضة والأوامر والنواهي والحلال والحرام والجنة والنار، وفي نفس الوقت تضمن له تفسيراً منطقيّاً لسطوة الواقع وتناقضاته المستمرة التي تبطش به، وقوة الطبيعة من حوله، وضخامة الكون الذي هو جزءٌ لا يتجزأ منه.
لذا فالفكرة في ذاتها مجرد "إعادة تدوير للفلسفات الروحية"، ربما تعد في أصلها شيئاً مقبولاً كونها تدعو إلى التخفُّف رويداً من سطوة المادة، لكنها فكرةٌ ناقصةٌ غير مجديةٍ للأسف، وليست الطريق الصحيح الذي تبحث في جوهر الحقيقة، بل يجب وصلها بأصل الأشياء، بحقيقة الوجود، ومعاناة الإنسان، وظلمة العالم المادي المقحل، والتحول من عبودية النفس والدنيا بماديتها وملذاتها، إلى النظر إليها بعين الآخرة وحتمية رجوعه وهدايته كمخلوقٍ إلى ربٍّ واحدٍ أحدٍ: هو اللّٰه الواحد القهَّار.
كانت -وآن لها أن تعود- مركزية الجماعة كآليةٍ اجتماعيةٍ للنجاة، هي الوسيلة الوقائية السليمة أمام دركات الحياة التي لا ولن تنتهي؛ وكيف تنتهي وهي سنتها: "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ". ولقد صدق الرسول حين أخبر: "مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا؛ كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا، وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِن الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا". فمن حق كل إنسان أن يشعر بالحب والسكينة ودفء المقربين، لا شيء يعلو على سكونه وأمنه ودعم المحيطين به في السراء والضراء، وأنه مهما فقد وافتقد فالمفقود أدنى -دائماً- من فقده هو؛ وما الفقد إلا فقد الآخرة.
لن ينعم الإنسان، لن ينعم أبداً، بالقناعة والرضا والسلام النفسي، إلا بكفِّه عن محاولة الترقي والصعود من قاع النقص الذي ينسج خيوطه داخله، عبر نفس السلم المادي ذاته الذي يقصده -ويدفعه إليه- الناس والمجتمع والعالم بأسره حبّاً أو كرهاً. وأنه لابد أن يواجه نفسه بحزمٍ وصدق شديدين، أمام كل هذا الشره والطمع والغوص في لجِّ المكاسب المادية والمكانة المجتمعية، ويبحث جاهداً كيف يبني داخله الدين ما يتغلب به على مادية الدنيا الزائفة وفراغ عدميتها.
وعلى الجانب الآخر، لزامٌ علينا أن نعود إلى حياة الأوائل لندرك جليّاً ماهية المصاعب والمِحَن، أن الرجولة من الجلد والصبر من الشهامة، وأن الرضا بالمقدور دائماً هو كنز الأسوياء، وأن "اخْشَوْشِنوا" لم ينطق بها الفاروق عن جهلٍ. علينا أن نشاهد ونتمعن في مآلات الآخرين وما يلاقونه وما يكابدونه لنتفهم مليّاً معنى المعاناة، لا أن ننزوي -كما يروِّج الخبلاء- في بقعةٍ صمَّاءٍ حول أنفسنا؛ نتحايل عليها بالسلام والطمأنينة وطوباوية العالم، وما أن تدور علينا أصغر الدوائر، وستفعل، فلن يشفع الجهل بالماء يومئذٍ من الغرق.
فالنضج، كل النضج، والخير، كل الخير، لمن امتلأت نفسه بالرضا، ويداه أبعد ما تكون إلى الامتلاء.
المراجع:
(1) أفول الواجب، چيل ليبوفتسكي.
(2) الحداثة السائلة، زيجمونت باومان.
(3) استعنت هنا ببعض أفكار ومنتوج الأستاذ الغازي محمد، في مناقشته وأطروحاته حول الحداثة والرأسمالية والعلمانية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.