وبالمثل؛ فإنّه حتى لو نجحت الحربُ ضد هذا الفيروس في جميع بلدان العالم -إلّا في بلد واحد- فإنه لن يُحتَسب ذلك نصراً لدول العالم على الفيروس؛ لأنه عدوٌّ يريد أن ينتشر من مكان واحد إلى العالم كلِّه، والحدودُ بين الدول ليست واقيةً بما يكفي لمنعه؛ لأنّ هذا الفيروس يتنقّلُ دون الحاجة إلى جواز سفر، أو تأشيرة دخول.
إنّ هذا العدو المشترك يقوم بتشكيل نظام تحالف جديد ينبذ جميع أنواع الصراعات بين دول العالم، فهل هذا ممكن؟ وبعبارة أخرى هل يمكن وضْعُ هذه الصراعات والحروب والأعمال العدائية -التي اعتدنا عليها في العالم- جانباً بفضل هذا الفيروس؟
ربما يكون هذا الفيروس قد دخل حياتنا للعب مثل هذا الدور، وكأنّما أتى ليُفصحَ لنا عن ذواتنا الإنسانية، وليساعدَنا على إدراك حالتنا الإنسانية الجَمعيّة. وإنّه لمن الطريف أن ننسب إلى الفيروس هذا الوعي وهذا الهدف النبيل! إننا إذا نظرنا إليه من منظار علم الوراثة البيولوجية فقد لا نتمكن من قراءة هذه الرسالة، ولكن من منظار علم الوراثة الروحية بلا ريب يمكن قراءة هذا التأثير بوضوح.
ومع ذلك؛ فيمكن أن نلاحظ في مكافحة الدول لهذا الفيروس أنماطاً وسلوكيات مختلفة، إذ يمكن لشعوب بعض البلدان أن تتفاعل وتظهر ردود فعل متباينةً للغاية مع هذا الوباء. وبعبارة أخرى؛ ليس كل مجتمع أو حتى كل شخص يعطي نفس الإجابة عن السؤال الكبير الذي يطرحه هذا الوباء، بوصفه امتحاناً للإنسانية والإنسان.
انهيار الأسطورة الأمريكية
وهذا بكل تأكيد لم يكن أمراً مفاجئاً؛ فنحن نراقبُ الواقعَ في الولايات المتحدة الأمريكية -التي تُشتهر بلبراليّتها- لأخذ العبرة، ونتساءل: أي نوع من الفضيحة الإنسانية يلحق بنظامها الذي يريد تحويل هذه الفاجعة الإنسانية إلى فرصة للربح التجاري!
ونرى كيف أن القطاع الطبي الأمريكي -الذي أضحى أسطورةً في مستوى تطوره- غيرُ قادر الآن على مواجهة مثل هذا المرض الذي استحالَ وباءً فادحاً وجائحة عارمة.
ونتيجة لذلك؛ فإنّ المجتمع الأمريكي اليوم يواجه وضعاً مأساوياً، حيث ردودُ الفعل عمياء أو متغافلة عن المسؤولية الاجتماعية في خدمات الرعاية الصحية (باهظة الثمن). كما أن الليبرالية الأمريكية كانت -قبل سنوات- تعلن بصَلَفٍ وغطرسة هيمنتَها على العالم، وانتصارها تحت عنوان: "نهاية التاريخ"، والآن يبدو أنْ ليس لديها ما تقدِّمُه للبشرية؛ هذه هي الصورة!
قولوا وداعاً للاتحاد الأوروبي
في الواقع، الأمرُ نفسه ينطبق على الاتحاد الأوروبي، فعندما بدأ الفيروس يكتسح إيطاليا ويفتك بها طلبَت المساعدةَ من دول الاتحاد الأوروبي، فقُوبِلَت طلباتُها بالرفض من جميع دوله، التي تذرّعت بأنّ الذخيرة الطبية الحالية بالكاد تكفي لتغطية احتياجاتها الداخلية، وأنّها لا تستطيع التصرف إلا في حدود إمكاناتها.
وقد كشفت ندرةُ الإمدادات الطبية -خلال مدة قصيرة جداً- عن حالةٍ فوضوية، بدأ فيها الجميع برؤية احتياج بعض إلى بعض، ومحاولة تلبية ذلك بطرق الابتزاز وأساليب الاستيلاء والسطو التي عفى عليها الزمن. ومن الواضح أيضاً أن الصراع ضد العدو المشترك قادر على دفع الجميع للانشغال بمأزقه أو ورطته الخاصة، والحرص على حماية نفسه دون الاكتراث بحماية الآخرين.
عندما تتحد الأمة مع الدولة
لقد رأينا سلوكاً بشرياً غريباً في الهجوم على الأسواق عندما كانت التدابير الاجتماعية تطلب البقاء في المنازل، فقد هرع الناس إلى المتاجر ومراكز التسوق كأنّهم في غارة، وبدأوا يتبضَّعون وكأنهم ينهبون أو يجمعون الغنائم، يتصرفون كما لو أنّهم يتخاطفون المنتجات من أيدي بعضهم بعضاً، لقد كان سلوكهم مخيِّباً لآمال أولئك الذين كانوا يتوقّعون أن يرَوا تضامُناً مجتمعياً في مواجهة هذه الكارثة.
ومقارنة مع ذلك فإن أحياء مثل "الفاتح" و"باشاك شهير" و"غازي عثمان باشا" -حيث وصلت الأخبارُ نفسُها في الوقت نفسه وحيث يعيش الناس المتدينون والمحافظون بكثافة- لم تشهد المتاجر فيها حركة تسوق زائدة عن المعتاد.
إنّ قوة تماسُك وتضامن المجتمع -خاصة في حالات الكوارث- هي علامة مهمة على تطور المجتمع نحو الأمة، وربما يبرز معدن الأمة بدقة عندما تتعرّض لمثل هذه الأحداث. لقد كانت تركيا دائماً أمّةً يمكنها إثباتُ أصالتها بنجاح، خاصة في المواقف الصعبة، ومن الممكن رؤية هذا في العديد من الأحداث عبر التاريخ.
نحن لا نتحدث فقط عن ثقافة التعاضد والتضامن التي أوجدها المجتمع؛ بل إضافة إلى ذلك فإن القيادة السياسية -وبعبارة أخرى أداء الدولة ضد الأعداء والكوارث المنسجمُ مع المجتمع- تحوِّل البلدَ الذي تتكامل فيه الدولةُ والشعب إلى أمّة.
أما الشعوب البعيدة عن التضامن فيما بينها فإنهم يرون الدولة آليةً لا تمكن طاعتها إلا بقدر ما يخشون من استبدادها وتجبُّرها، والدولة التي تطبّق هذا الاستبداد والطغيان عندما تنحسر قوتها قليلاً فإنّه مقدَّر لها أن تفقد السيطرة والتحكُّم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.