مساء الخميس الماضي، استعاد السودانيون روح ثورة ديسمبر/كانون الأول المجيدة، التي أسقطت الرئيس المخلوع عمر البشير قبل عام من الآن. جاءت الاستعادة بعدما أطلق رئيس الوزراء الانتقالي عبدالله حمدوك حملة "القومة للسودان" لدعم الموازنة العامة واحتياجات البلاد في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة، إلى جانب تحديات انتشار وباء كورونا.
5 دقائق فقط أطلّ فيها حمدوك على مواطنيه عبر عدد من القنوات الفضائية المحليّة وصفحاته الشخصية على مواقع التواصل، قائلاً، إنه لن يكذب على الشعب السوداني، وأنّ الدولة تعيش أزمة وظروفاً قاسية، نتيجة للاقتصاد المتدهور الذي ورثته من النظام المخلوع بسبب فساده وسياساته، مشيراً إلى أن الحكومة عندما كانت تسعى في علاج الأزمة الاقتصادية، حلّت عليها أزمة فيروس كورونا التي أثرت في اقتصاد العالم بأسره.
فور أن أنهى رئيس الوزراء خطابه المختصَر الذي أطلق فيه حملة، 'القومة للسودان'؛ كمبادرة شعبية للبناء والإعمار، سارع الآلاف إلى المساهمة والتبرع رغم الظروف الاقتصادية القاهرة، ففي ظرف يومين فقط جمعت الحملة نحو 46 مليون جنيه سوداني، مع العلم أن المنافذ المطروحة حتى الآن تتلقى فقط سودانيي الداخل، الذين يعانون الأمرّين من ندرة الخدمات الأساسية وارتفاع أسعارها بصورة مبالغ فيها، إلى جانب تدهور سعر العملة الوطنية.. بينما ينتظر سودانيو المهجر أن تدشن لهم الدولة آليّة لتلقي مساهماتهم بالعملات الحرة، التي بالطبع ستكون أكبر من مساهمات أبناء الداخل.
قُلنا، إن الحملة أعادت روح ثورة ديسمبر المجيدة لأن التجاوب كان منقطع النظير بالمقارنة مع الأوضاع الاقتصادية المريرة، وحملات التشكيك والتخوين التي تبثّها خلايا النظام البائد. فذات الكتائب الإلكترونية التي كانت تسيء للمتظاهرين بأقذع الألفاظ أيام الثورة وأيام اعتصام القيادة العامة، نشطت في السخرية من الحملة، وشككت في أهدافها، لكن رغم ذلك تصدّر هاشتاغ #القومة_للسودان، وسائل التواصل الاجتماعي، وسجّل الترند الأوّل في السودان وعدد من دول الجوار.
المبادرة أعادت الثقة من جديد في شخص رئيس الوزراء السيد عبدالله حمدوك رغم الحملات الإعلامية الشرسة التي تستهدفه وتستهدف الحكومة الانتقالية من التحالف السري بين عساكر السيادي وعناصر النظام البائد، فهؤلاء جميعاً يعتبرون حمدوك العدو الأول لهم، لما يتمتع به من شعبية حقيقية في أوساط الشعب السوداني، فضلاً عن أن العسكر ما زال لديهم طموح في الاستيلاء الكامل على السلطة، رغم الدرس القاسي الذي لقّنه لهم الشعب السوداني في مليونية 30 يونيو/حزيران من العام الماضي، عندما خرج عن بكرة أبيه رافضاً للحكم العسكري، ومطالباً بالقصاص من مرتكبي مجزرة فض الاعتصام التي تورّط فيها القادة العسكريون باعتراف المتحدث الرسمي باسم المجلس المحلول شمس الدين كباشي.
مهما كان لدينا رأي سالب في أداء الحكومة التي يقودها رئيس الوزراء عبدالله حمدوك فإننا نُكبر فيه أنه لم يرهن بلاده للمحاور الخارجية. وفي هذا الخصوص نستذكر أن المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات أوقفتا دعمهما للسودان الذي أعلنتاه فور سقوط نظام البشير في أبريل/نيسان من العام الماضي. إذ تعهدت الدولتان حينها بمساعدات قيمتها 3 مليارات دولار، لكنّ وزير المالية السوداني إبراهيم البدوي اعترف في تصريح صحفي بتاريخ 27 فبراير/شباط الماضي أن الرياض وأبو ظبي لم تقدما متبقي منحتهما البالغ "2.25″ مليار دولار بعد، بمعنى أن الدولتين سلمّتا السودان 750 مليون دولار فقط من المنحة.
أغلب الظن أن الرياض والسعودية شعرتا بأن مصالحهما مع السودان لم تعد كما كانت من قبل، فحرب اليمن التي شاركت فيها الخرطوم إبّان عهد الرئيس المخلوع عمر البشير لم تمضِ وفق أهواء قادة التحالف العربي، فقد أظهر الشعب اليمني وجماعة الحوثي صموداً منقطع النظير قَلَب الموازين رأساً على عقب. فبعد 5 سنوات من شن الحرب أصبحت صواريخ الجماعة تهدد العاصمة السعودية الرياض، الأمر الذي جعل الأخيرة تبحث عن مخرج سياسي للمأزق الذي كلفها أموالاً طائلة وشوّه سمعتها بعد أن صُنّفت كدولة معتدية تسبب في قتل آلاف الأطفال والنساء وكبار السن.
وإلى جانب قضية حرب اليمن، لم ترق السياسة الخارجية التي يتبناها حمدوك للسعودية والإمارات، فقد حرص على النأي بنفسه عن الأجندة الإقليمية للدولتين. ملتزماً ــ على سبيل المثال ــ بدعم حكومة الوفاق الليبية التي يعترف بها مجلس الأمن الدولي، وكذلك موقفه الداعم لسد النهضة الإثيوبي الذي فجّر عليه غضب الجارة مصر ودول الخليج، لكنّ حمدوك ومن تجربته الثرّة في الأمم المتحدة ينظر فقط إلى مصلحة السودان ولا تهمه أي أجندة خارجية بعكس رئيس المجلس السيادي عبدالفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع حميدتي الذين ينظر إليهم الشارع السوداني كوكلاء للمحور السعودي الإماراتي المصري، ويشكك الثوار كذلك في علاقات مشبوهة للجنرالين مع رموز النظام البائد من واقع الدعم المعلن الذي يجدانه من عناصر النظام المباد.
رسائل عديدة بعثتها مبادرة "القومة للسودان"، منها ما كانت موجّهة للعسكريين الذين ما زالوا يأملون في تكرار نموذج السيسي في السودان، ويراهنون على نفاد صبر الشعب السوداني وانقلابه على رئيس الوزراء حمدوك بعد أن قاموا "العسكريون" بوضع العراقيل أمام الحكومة المدنية، ومنها تجريد وزارة المالية من الإشراف على أموال شركات الأجهزة الأمنية والعسكرية التي تفوق الـ40 شركة ويصل حجم عائداتها إلى مليارات الدولارات، تُضارِب في الذهب والوقود والدولار مما أدى إلى ارتفاع أسعار هذه السلع بهذا الشكل الجنوني.
ومن العراقيل التي وضعها العسكريون أمام الحكومة المدنية أنهم تساهلوا مع الحرائق المجهولة التي تشهدها مناطق إنتاج القمح في ولاية الجزيرة بعد أن حقق الموسم الزراعي إنتاجية وفيرة هذا العام، جدد الأمل في عودة السودان بلداً منتجاً ومصدراً للغذاء.. هذه الحرائق يتهم المواطنون عناصر النظام البائد بالتورط فيها، فبعد أن تكررت الحرائق عدة مرات أعلن جهاز المخابرات أنه سيرسل 300 من عناصره لتأمين المحصول.
الرسالة الثانية جاءت في بريد قيادات النظام المباد، أنه برغم حملاتكم المسعورة لتشويه صورة الحكومة المدنية ورئيسها، فإن السواد الأعظم من الشعب السوداني ما زال يثق في رئيس الوزراء رغم الإخفاقات، وضعف الأداء الذي ظهر به عدد من الوزراء مثل وزير التجارة مدني عباس، ووزير الزراعة الذي لا يعرف أحد اسمه. فكأن مبادرة "القومة للسودان" تقول كذلك للإسلاميين وكل من شارك في النظام البادئ لا تحلموا مجرد حلم أنكم ستعودون مرة أخرى إلى حكم السودان.
أما الرسالة الثالثة فهي موجهة إلى رئيس الوزراء عبدالله حمدوك، مفادها أن الشعب السوداني الذي لم يبخل عليك بالمساهمة في مبادرة "القومة للسودان"، يرى فيك المستقبل الزاهر والآمال العِراض في سودان جديد.. مستقر ومتطور رغم التحديات وكيد العسكريين وحلفائهم في الداخل والخارج.
رسالتنا الخاصة لرئيس الوزراء نقول له فيها.. امضِ إلى الأمام يا حمدوك، واستفد من الأخطاء التي صاحبت تجربة الـ6 أشهر الماضية لمعالجتها، أما العراقيل التي يضعها هؤلاء في طريقك، فليس هناك مناص من التوجه بخطابٍ مماثلٍ إلى جموع الشعب السوداني تخبرهم فيه بالحقائق التي لا تزال غائبة عن كثيرين يعتقدون أن التدهور الذي تشهده البلاد مسؤولية الحكومة الانتقالية التي يقودها رئيس الوزراء.
نعلم أنك تحاول تجنب الصِدام المعلن مع جنرالات السيادي بقدر الإمكان، بدليل لجوئك إلى الأمم المتحدة لطلب بعثة سياسية من أجل حماية ما تبقى من الفترة الانتقالية، وضمان عدم حدوث انقلاب عسكري يلوح في الأفق بعد استراتيجية "إغراق البلاد في الأزمات" التي يتبنّاها أعداء الحكومة الانتقالية.. نعلم كل ذلك لكن خطاب الصراحة والمكاشفة لابد منه، ونأمل أن يكون قريباً لتبين فيه الحقائق لشعبك الذي ضحّى الآلاف منه بقوت يومهم من أجل المشاركة في حملة "القومة للسودان".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.