مباراة مقابل نصف مليون جنيه.. لماذا يكح المصريون التراب؟!

عدد القراءات
3,339
عربي بوست
تم النشر: 2020/04/03 الساعة 11:52 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/04/03 الساعة 11:52 بتوقيت غرينتش
مباراة مقابل نصف مليون جنيه.. لماذا يكح المصريون التراب؟!

واحد من كل ثلاثة مصريين فقير. هذا ما تخبرنا به الإحصائيات والتقارير الرسمية للدولة المصرية الصادرة بنهاية عام 2018. وهذه التقارير والأرقام لا يجب أن تؤخذ كمسلمات، لأن تاريخ الدول العسكرية يخبرنا أن هذه الدول تميل إلى تزييف الأرقام والحقائق وتزوير المستندات الرسمية لتحسين صورتها. لكن سنمضي قدماً مع إحصائيات الدولة المصرية فيما يخص معدلات الفقر ونسبة الفقراء لأنه لا يسمح للمؤسسات العلمية والبحثية برصد مثل هذه المسائل لاعتبارات متعلقة "بالأمن القومي".

أن يكون المصري فقيراً فهذا يعني أنه يعيش على قرابة 20 جنيهاً في اليوم الواحد (1.45 دولار أمريكي). وتسكب علينا الإحصائيات المزيد من الأسى، لأن أكثر من 6% من المصريين يعيشون في فقر مدقع. والفقر المدقع يعني أن جيوبهم تخرج 14 جنيهاً تقريباً في اليوم الواحد (أقل من دولار أمريكي).

تبرر الحكومة هذه الأرقام والإحصائيات بالقول والتأكيد على أن البلاد تشهد مرحلة إصلاحات اقتصادية واسعة سيتضرر منها عديد الفئات، ولكنها ستجني ثمارها في المستقبل القريب، وستقطف ثمار الازدهار في شبرا الخيمة وإمبابة والبحيرة وفي كل ربوع مصر قريباً جداً. كما تؤكد الدولة من حين لآخر على أهمية شد الحزام على الخصر كي لا يشعر المواطن بالجوع في هذه المرحلة الانتقالية. 

ولتبرير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المنحطة لما يربو على نصف المصريين، تتحجج الحكومات على مر الأزمنة المتعاقبة، بقلة الموارد وضعف مصادر الدخل التي يمكنها التحسين من حياة ملايين المواطنين الفقراء ودفعهم نحو ذيل الطبقة المتوسطة التي تتآكل بدورها.

مباراة = 500 ألف جنيه

من ملامح النصب والعجب في بلادنا العجيبة، التي يصارع أكثر من 32.5% من أهلها الجوع والفقر والحاجة، هو أن يتحصل لاعبو كرة القدم في أندية النخبة (الأهلي والزمالك وبيراميدز) في الدوري الممتاز على ملايين الجنيهات في الموسم الواحد. وذلك نظير لعب كرة القدم بمستوى يتأرجح من السيئ إلى المتوسط، ونادراً ما يرتقي إلى الجيد وأمام مدرجات خاوية تماماً، اللهم إلا من بعض الهتيفة ورابطة محبي أجهزة الأمن.

ورغم أنه ينبغي أن لا يعلو صوت فوق صوت المعركة، فمصر في حرب ضروس مع فيروس كورونا. نشبت معركة متعددة الأطراف بين نجم الكرة المصرية أحمد فتحي من جهة والنادي الأهلي وجماهيره من جهة أخرى بسبب رحيل الأول عن صفوف النادي الأحمر. أحمد فتحي متخذاً من مثل: "إن جالك الطوفان حط ابنك تحت رجليك" مبدأ حياة، رفض عرض النادي الأهلي لتجديد عقده لموسمين مقابل 12 مليون جنيه سنوياً، أي 24 مليون جنيه في موسمين. المبلغ صاف من الضرائب وبدون اشتراط نسبة مشاركة في المباريات، ومع حصوله نسبة كبيرة من أموال الإعلانات التجارية التي سيقوم بها. ولو افترضنا أن فتحي سيلعب 60 مباراة خلال الموسمين القادمين، وهو غير مرجح لكبر سنه (35) وانخفاض مستواه وعدم اعتماد المدير الفني السويسري رينييه فايلر عليه بشكل كامل، فإن المقابل الذي سيحصله نظير لعب المباراة الواحدة هو 400 ألف جنيه. أي غبي على وجه الأرض يرفض مثل هذا العرض؟ أحمد فتحي هو من رفض هذا العرض السخي، لكنه ليس غبياً. لأنه سينتقل، على الأغلب، إلى نادي بيراميدز المملوك لمستثمرين إماراتيين، في حال لم يصله أي عرض خليجي أكبر. ويتردد في الأوساط أن فتحي سيحصل على 45-50 مليون جنيه خلال عقد مدته 3 سنوات. ما يعني أن فتحي سيلعب الـ90 دقيقة مقابل نصف مليون جنيه مصري.

لماذا يكح المصريون تراباً؟

أحمد فتحي هو أحد نجوم طفولتي الكروية، وهدفه في مرمى ساحل العاج في نهائي بطولة أمم إفريقيا 2009 لا ينساه أي مشجع مصري، وهدفه الحاسم في شباك طلائع الجيش في بطولة الدوري الممتاز موسم 2009 محفور في ذاكرة كل أهلاوي. لكنني أشعر بالغضب مع بعض الحقد. الملايين التي يتقاضاها أحمد فتحي ومعظم أندية النخبة تأتي عن طريق نفق محفور في جيوب المصريين الفقراء والمعدومين وتنقل من خلاله هذه الأموال إلى جيوبهم بسلاسة. وكلما هتف المشجع وحزق وانفعل، انتقلت الأموال من جيبه إلى جيب لاعبي النخبة ووكلائهم والوسطاء ورؤساء الأندية.

وكلما انتقلت الملايين من جيب الفقراء إلى جيوب الأغنياء، تهاوت ادعاءات الحكومة عن أن الفقر في البلد مشكلة موارد، وليس سببه -لا سمح الله- سوء توزيع الموارد والفساد وسوء استخدام السلطة وسن القوانين والتشريعات المنحازة للأغنياء على حساب الفقراء. المصريون لا يكحون التراب لأن مناخ مصر صحراوي، ولكن لأن جيوبهم متصحرّة.

رسالة إلى الزملاء الشحاتين 

المشكلة الأخيرة، هي وجود بعض السادة الشحاتين البسطاء أمثالي وأمثال 95% من المصريين، يدافعون عن قرار أحمد فتحي وأمثاله تحت يافطة "تأمين مستقبل أولاده". وترى الزميل الشحات، الذي من الممكن تسريحه من عمله غداً بدون مقدمات أو تعويض، ينفعل ويحزق حتى تحسب بواسيره سقطت منه سهواً وهو يقول: "1+1=2" وكأن الوحي عاد من جديد وأخبره جبريل بأسرار الكون، أو أن آدم سميث هتف في خاطره. والمصيبة أن الزميل الشحات الذي يتقاضى في حدود 10-20 ألف جنيه شهرياً، وحسابه البنكي يقترب من المليون، ولديه سيارة ماركة سكودا أو هيونداي، عليها أقساط، يعتقد أنه غني أو له قيمة اجتماعية تجعله مختلفاً عن باقي زملائه الشحاتين وتضعه إلى جوار أحمد فتحي وطبقته. لذلك مع أول صدام أو لقاء مع أحد الأغنياء الحقيقيين، الذي ينفق مرتبه في سهرة في مدينة الجونة، يشعر أنه عار تماماً، ومجرد من كل قوة أو حماية، ويتوسل إلى ذلك الغني كي يعفو عنه أو يضمه إلى كنفه.

كل ما نطلبه من السادة الشحاتين، أن يعرفوا أنهم ليسوا فقراء لأن الله قد كتب عليهم الفقر حتى ينفخ في السور. وأن الحاج أحمد فتحي لم يصبح من كبار تجار الأراضي في مدينة بنها لأن أمه دعت له في ساعة إجابة. ولكن سبب كل هذا هو الفساد والظلم والاستبداد، وفوق كل الأسباب توجد المنظومة التي خلقت كل هذا القهر والاستغلال كي تمص دماء البشر وتعضعض في لحمهم ثم تصب الأموال في جيوب الحاج فتحي وأصدقائه.

ما يجعل غصةً وحزناً في قلبي، أنه رغم صعود أمثال فتحي من القاع المزدحم، إلا أنهم يكتفون برمي الفتات للمجتمع، ولا يشعرون بأي مسؤولية أخلاقية أو اجتماعية تجاه البشر الذين يعيشون معهم تحت سماء واحدة. وعندما يشعرون بالضغط، يقررون عرض مسرحية قائمة على النصب والاحتيال والاستعباط على المشاهدين. مثل تلك التي بدأت بتحدي كفالة المحتاجين والمتضررين من فيروس كورونا، لكن ينحصر التحدي على كفالة 20-60 أسرة. يعني تقريباً ثمن 15 دقيقة من مباراة واحدة أو وقت عملية الإحماء.

السادة المليونيرات وداعموهم يجب أن يدفعوا، وأن يدفعوا كثيراً كثيراً. وأن يدفعوا في أعمال الخير المجتمعية وأن يدفعوا أضعاف أضعاف الضرائب المفروضة عليهم حالياً. أو كما قال محمد نعيم: "تدفع فوق الترابيزة، وتحت الترابيزة".

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

حذيفة حمزة
كاتب ومحرر
محرر، وباحث في علم الاجتماع الرياضي
تحميل المزيد