من “حمار الأسبوع” إلى قمة المجد.. ما حكاية الهولندي بيركامب؟

عدد القراءات
1,009
عربي بوست
تم النشر: 2020/04/02 الساعة 14:32 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/04/02 الساعة 14:32 بتوقيت غرينتش
من "حمار الأسبوع" إلى قمة المجد.. ما حكاية الهولندي بيركامب؟

كانت أمستردام عقب سنوات الحرب مدينة ليبرالية جامحة، احتضنت الأفكار الثورية على عكس ما لفظتها في الخمسينيات. في رواية السقوط، يصف ألبير كامو مدى ملله من المدينة قائلاً: "على مدى قرون كان مدخنو البايب يشاهدون الأمطار نفسها تتساقط في القناة نفسها".

في ديسمبر/كانون الأول 1962، شهدت أمستردام الحدث المهم الأول في تاريخها الاجتماعي الحديث، ألقى الشاعر سايمون فينكينوغ قصيدة "افتح المقبرة" في الحفل الذي ردد فيه: "الانتصار على الطرق القديمة يبدأ في أمستردام؛ المركز السحري".

لا يمكن فصل الابتكار الذي طرأ على المجتمع الهولندي عامة عن نظيره في مجتمع كرة القدم المصغر، اتخذ كلاهما التمرد رداء ينوب عن الزي التقليدي. ومثلما احتاجت الثورة لثوري يناضل خلف أهدافها، استلزم الاعتراف بجدوى التغيير خلق إيجابيات، ولولا ميلاد أمثال كرويف وبيركامب لم يكن من المقدر لها أن ترى النور.

بيركامب وكرويف

يكفي كتابة اسم بيركامب على محركات البحث، لتظهر نتائج لا تحصى، نتائج لن تؤول بنا في النهاية إلا للتغني به كما تغنى المعلقون بأهدافه ولمساته، أو للتعجب من فشل فريق إنتر ميلان في استغلال قدراته، واستحواذه على جائزة "حمار الأسبوع" من قبل الصحافة الإيطالية. قبل أن تُرسم صورة الهولندي الذي لا يطير، أو كلاعب يليق به الإمساك بعصا كتلك التي يحملها مايسترو الفرق الموسيقية. في مطلع الألفية، كان دينيس أهم مؤلف موسيقي في الدوري الإنجليزي. وظلَّ لسنوات على هذه الحال، والآن تنفجر النوستالجيا في القلوب بظهور صورته أو استدعاء مقطع فيديو يمارس فيه السحر أو عندما نتذكر إعلان قنوات art الترويجي عن موسم آخر من المتعة الإنجليزية. 

فن استغلال المساحة 

يوجد عنصر ما في معادلة تكوين أسطورة بيركامب، ترتبط جذوره بشكل وثيق مع الثقافة الهولندية، يظهر بشكل جلي للحد الذي لا يمكن إخفاؤه، وهو محور الحديث القادم.

يستعرض ديفيد وينر، في كتابه Brilliant Orange، نظرية تشير لقدرة الهولنديين بالتحديد على إتقان التحكم في المساحات؛ لأن الطبيعة الجغرافية المستوية للأرض كثيراً ما تغرق بفعل الفيضانات، وهو ما أجبرهم على التحكم في المساحات يومياً في حياتهم العادية. يقول وينر: "لقد بنيت الكرة الشاملة على نظرية جديدة للمساحة. تماماً كتصور كورنيليس ليلي في القرن التاسع عشر. استغل رينوس ميشيلز وكرويف قدرات جيل جديد من اللاعبين لتغيير أبعاد ملعب كرة القدم".

أشارت البوادر الأولى إلى أن شيئاً ذا طابع مختلف على وشك الميلاد، كان ذلك حينما فاز أياكس بخماسية في ملعب دي ميرا ضد ليفربول، في الجولة الثانية من كأس الاتحاد الأوروبي، عام 1966. النتيجة الصادمة جعلت ادعاء بيل شانكلي العودة والفوز   7/ 0 في أنفيلد يُؤخَذ على محمل الجد. قبل أن تنتهي المباراة بالتعادل الإيجابي بهدفين لمثلهما.

توصل ميشيلز ولوبانوفسكي إلى رؤية مشتركة للعب كرة القدم. اختصرت اللعبة من وجهة نظرهم في المساحات. ثم ورثها كرويف من الأول، وشرح تلك الأفكار بشكل أكثر شاعرية، وأوضح أهمية المساحة في حالتين منفصلتين: عند امتلاك الكرة على اللاعب البحث عن المساحة الخالية. وعند فقدها، يتحرك الفريق للضغط ككتلة واحدة، لا تتخطى المسافة بين كل خط من خطوط الملعب من 10 إلى 15 متراً. والغرض تقليل المساحة قدر الإمكان. 

يقول يوهان كرويف: "عند امتلاك الكرة عليك التأكد من أن لديك أكبر مساحة ممكنة، وعند فقد الكرة يجب عليك تقليل المساحة التي يمتلكها خصمك. في الواقع كل شيء في كرة القدم يدور حول المساحة".

إعادة اختراع رقم 10

تولى لويس فان غال مهمة تدريب أياكس بعد ثلاث سنوات من رحيل يوهان كرويف، وبينما تشارك كلاهما الخلافات، والعداء المرير، اتخذ كل منهما من فلسفة الكرة الهولندية هيكلاً رئيسياً لأفكاره.

استخدم فان غال منطقاً بسيطاً وآمَنَ به، وهو: إذا استطعت إبقاء أظهرة المنافس متمركزين في أطراف الملعب بشكل واسع، وأجبر المهاجم الصريح قلبي الدفاع على العودة للوراء فسيخلق بذلك مساحة أكبر لتحرك اللاعب رقم 10.  

اعتمد فان غال على رسم 3-1-2-1-3 شديدة الانضباط، مثل صانع الألعاب، مفتاح نجاح التكوين التكتيكي. كان بيركامب اللاعب المنشود بالنسبة لأياكس والمنتخب الهولندي على حد سواء خلال تلك الفترة. يمكننا بمنتهى الأريحية تسميته بالأفضل في الكرة الهولندية خلال التسعينات.

بيركامب: "في الملعب أظهر أفضل أداء عند وجود مساحة، ومعرفة أين  يمكن خلق المساحة. في هولندا، حاولت دائماً تسديد الكرة فوق حارس المرمى (لوب) اعتاد الناس على قول "أوه، أنت تحاول تسجيل أهداف جميلة فقط. لكن اسمع، إذا كان حارس المرمى بعيداً قليلاً عن خطه، فكم من المساحة لديك على يساره أو يمينه؟ ليس الكثير. وكم المساحة فوقه؟"

دينيس بيركامب

قبل ذلك، وأثناء محاولته لشق طريقه عبر أكاديمية أياكس للظهور رفقة الفريق الأول، نظر له في البداية على أنه مهاجم صريح، وقدمه كرويف للمرة الأول كجناح أيمن في موسم 1986-1987. 

"في ذلك الوقت، كان دور الأجنحة بسيطاً. لم يكن من المتوقع أن تدخل إلى الصندوق وتسدد، كان عليك أن تبقى عريضاً وتشعر بطباشير خط التماس تحت حذائك. كانت مهمتك هي توسيع دفاعهم، وتجاوز مراقبك بسرعة لتحريك الكرة". – بيركامب يتذكر دوره رفقة كرويف

بعد رحيل كرويف ليصبح بعد ذلك الأب الروحي لهوية برشلونة، خلفه على دكة البدلاء المدرب كورت ليندر، الألماني لم يستوعب العقلية الهولندية، وقرر الاعتماد على 2-4-4، وهو ما قلص حظوظ بيركامب في الظهور رفقة الفريق الأول؛ ليعود مجدداً لتمثيل فريق الشباب.

أصرّ فان غال حينها على الدفع ببيركامب في مركز رقم 10،  ما آل إلى رقم قياسي جديد في الدوري الهولندي بتسجيله في عشر مباريات متتالية.

تراجع مستوى بيركامب رفقة بيكنباور بسبب سوء توظيفه، حيث أعاده مجدداً للعب كجناح، وتطلبت عودته انتظار تولي فان غال مهمة تدريب الفريق في 1991، تيمت الصحافة الهولندية بأدائه في مركز رقم 10، واضطروا لاختراع مصطلح جديد يستوعب ما يقدمه "schaduwspits" أي "مهاجم الظل".

بيركامب: "حولنا فان غال لفريق حريص وطموح. لقد تدربنا بدقة على جميع التفاصيل، التسديد، المراوغة، أصبح كل شيء أكثر تكتيكية. كان يقول: (فكر في كل خطوة تقوم بها). لعبنا كرة مبتكرة وجذابة للمشاهد وممتعة أثناء ممارستها".

وضع بيركامب ضمن الإطار المثالي كلاعب يحب كرة القدم، يملك الرؤية والقدرة على الارتجال، مهووس بالمساحات، غير مطالب بالركض دون جدوى. حيث يقوده مدرب يمكنه التفاخر بأنه من القلائل الذين حاولوا خفض معدلات ركض اللاعبين. ينشغل فقط بالحديث عن سرعة الكرة والمكان والزمان. أين أكبر مساحة؟ والمكان الملائم للعب الكرة. كان على كل لاعب أن يفهم هندسة الملعب بالكامل، وهو ما أجاده لاعب يتذكره كرويف عندما يسمع كلمة كرة القدم. 

"لا يوجد ما يسمى أفضل لاعب في العالم. لكن عندما تفكر في كلمة لاعب كرة قدم، يجب أن تكون هناك صورة ما في ذهنك. ربما يتهمني أحدهم بقصر النظر، لكني لو فكرت في عازف الغيتار أرى كيث ريتشاردز. لو فكرت في الرسام فهو يوهانس فيرمير، لكن إذا سألني أحدهم عن لاعب كرة قدم فإنني أميل إلى رؤية بيركامب".
– كرويف عن بيركامب

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد أشرف
كاتب وقاص مصري
كاتب وقاص مصري مهتم بالثقافة العربية وعلم الاجتماع وتقاطعاتهما مع عالم الرياضة
تحميل المزيد