عندما كلمتني مارينا لتخبرني عن موت صديقي وأستاذي.. هذه صرختنا للعالم

عدد القراءات
5,908
عربي بوست
تم النشر: 2020/04/02 الساعة 14:04 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/04/02 الساعة 14:17 بتوقيت غرينتش
فيروس كورونا

عندما حملت الهاتف وسمعت صوت مارينا، لم أرد أن أصدق الذي سمعته. بنفسٍ متعب، حاولَت أن توصلني الأخبار السيئة، مع كل نفسٍ صغير لديها، وحتى لا تكسر العبارة بالبكاء:

 "رافاييل مات" كلماتها كصاعقة نزلت على رأسي، فأجبتها: "لا، لا أستطيع أن أصدق ذلك" بنبرة غضبٍ في البداية. ولكني تقبلت الخبر على مضض. وشكرت مارينا، وعانقتها افتراضياً، أغلقت الخط. 

توفي رافاييل، الزميل الأقدم الذي علمني منذ 15 عاماً العمل الإذاعي، علمني كيفية العمل في الإذاعة وعمل التقارير، توفي وهو رجل يبلغ من العمر ستين عاماً تقريباً، كان قوياً كالصخرة، سليماً، مليئاً بالاهتمامات، محباً للسفر وله شغف كبير. 

إفريقيا القارة التي كان قادراً على الحديث عنها بشكل أفضل من غيره، والتي كان مراسلاً منها أيضا في لحظات شديدة الحرارة: من الصومال والكونغو وإفريقيا الوسطى.

توفي رافاييل وهو ثاني شهيد من بين الأصدقاء لهذا الأسبوع، في حين أن العديد من الآخرين أثبتت إيجابية فحصهم لفيروس كوفيد 19. أستقبلُ رسائلهم وإشعاراتهم على الفيسبوك، وأرى صورهم على الإنستغرام، وأسمع أصواتهم على واتساب. بعض الزملاء خرجوا للتو من المرضِ يكتبون شهاداتهم على مواقع الإعلام الوطنية التي يعملون فيها.

الشعور الملموس هو الشعور بالحصار، والغريزة الأساسية هي الدفاع عن النفس، أمام عدو غير مرئي.

وعلى الرغم من كل شيء، فأنا ما زلت هادئة وعقلانية مؤمنة بـ "ومن يتوكل على الله فهو حسبه"، فهذه هي اللحظات التي نثبت فيها ثقتنا بالله وقبول القدر خيره وشره، وعلمي بأنها ليست المرة الأولى التي سيحدث هذا لي يشعرني بالارتياح. فقد عملتُ كصحفية حرب في الشرق الأوسط والشرق الأدنى لمدة خمسة عشر عاماً، وأمضيت ثلاث سنوات من حياتي في اليمن. وبعد كل ما مررت به لعدة مرات خلال الحرب مروراً بوباء الكوليرا، كل هذا ساعدني على وضع كل شيء في منظوره المناسب. ومع كل ذلك، فإن المرء ليس مستعداً بما يكفي لمواجهة موت صديق، ولم يكن مدركاً للمعاناة الفعلية للآخرين حتى يجربها.

هنا، في شمال إيطاليا، حيث أعيش، لا يمر يوم دون أن أسمع فيه عن وفاة صديق أو قريب أو جار. واليوم، بلغ عدد القتلى الإيطاليين أكثر من 10 آلاف، ومنذ يومين فقط يبدو أن منحنى العدوى قد انخفض، ولكن لا تزال هناك الكثير من الوفيات والعديد منهم من العاملين الصحيين والأطباء والممرضات، الذين يساعدون أولئك الذين يمرضون، بعضهم متطوعون مثل دانييلا جاستالدي، طبيبة القلب، تولت دانييلا على عاتقها في السنوات الأخيرة صحة المهاجرين وعالجت مئات السوريين الذين مروا عبر ميلان بعد أن فروا من بلادهم في الحرب.

 "لقد عملتُ في العمليات الجراحية لسنوات وأفتقد غرفة العمليات والأدرينالين والقلق والرضا عن النفس عند مساعدة شخص لا أعرفه وأشعر بالغبطة إن نجا، والآن لقد حان الوقت".

تقول إن لديها بعض المخاوف، فهي مطلقة ولها أربعة أطفال يعتمدون عليها وعلى مكاسبها، لكنها نظمت نفسها مع جدة الأطفال، وأوضحت لهم أن هناك لحظات في الحياة تحتاج فيها إلى النظر إلى ما وراء حديقتك الخاصة، وأن تضع نفسك في خدمة المجتمع. ومثل دانييلا، 8000 شخص استجابوا لدعوة الحكومة، التي ستوظف ألف طبيب متطوع، كثيرٌ منهم متقاعدون بالفعل أو تخرج للتو. 

جيش صغير من المتطوعين من الخارج:

30 عاملاً صحياً من ألبانيا، و20 من الصومال، و20 من كوبا، و150 من روسيا، وجميعهم عملوا في النظام الصحي الإيطالي لسنوات ولكنهم يحملون جنسيات أجنبية. في هذه الأيام من الجهد الجماعي الكبير، فكر بعضهم، بعد العمل في وحدة العناية المشددة، في التقاط صور ذاتية عن طريق وضع لافتات تحمل جنسيتهم عليها: حدث ذلك في كريمونا، مع بيرغامو، بريشيا، وواحدة من أكثر المدن تضرراً بياشينزا. لكن الصور الأكثر تكراًرا على وسائل التواصل الاجتماعي هي صور الممرضات أليسيا، إيلينا باجلياراني، والطبيبة المتخصصة نيكولا سغاربي: كل الصور تتميز بعلامات الكمامات التي يضعونها على وجوههم لحماية أنفسهم، أعينهم يعلوها التعب، ووجوههم منهكة.

تعمل لوسيا إيرولدي في مستشفى بوليكلينيكو ماجيوري في ميلانو، لديها خبرة تطوعية خلال كارثة تسونامي الآسيوية وزلزال هايتي. ولكن حسب رأيها، فإن هذا الوضع لا يختلف كثيراً: "إن الضغط النفسي هائل، عندما يتم تنبيب المريض وينتهي به الأمر في العناية المركزة، فإننا نكذب عندما يسألنا الكثيرون عما إذا كانوا سيخرجون أحياء، ولكنهم في معظم الأحيان يموتون، النسبة المئوية 50% يعيشون و50% يقضون. أمنح الأمل، وأوزع الابتسامة، ولكن عندما أدخل غرفة الضغط لتغيير ملابسي وخلع بزتي، غالباً ما أبكي. عندما ينتهي كل هذا، سأحتاج بالتأكيد إلى مساعدة طبيب نفسي". 

الجروح التي يعانيها أخصائيو الرعاية الصحية هي أخلاقية بشكل أساسي: ماذا تقول للمريض عندما لا يكون لديك إجابة؟ وعندما لا توجد أماكن شاغرة في العنابر أو العناية المركزة، عليك أن تتخذ خيارات كما هو الحال في الحرب: الأولوية لأولئك الذين لديهم فرصة أكبر في النجاة. خيار ينطبق على أي المستشفيات الرئيسية في حالة الطوارئ. "هنا في بوليكلينيكو، تفيد الدكتورة مانويلا كارولي، جراحة الأعصاب، بأن جميع الأقسام مخصصة تقريباً لمرضى كوفيد 19. "أنا الآن أجري العمليات الجراحية الأكثر إلحاحاً فقط، لا بد لي من استعارة غرفة العمليات في مستشفى آخر". فقط إذا تم تجهيز بعض المعدات، إن بعض المدن الأخرى قد طغت عليها حرفياً حالة الطوارئ. في بعض المدن لا يتم قبول الحالات حتى يصبح لديها صعوبة بالغة في التنفس، ولا تتم مساعدة كل المصابين بالفيروس في غرفة الطوارئ.

ولكن يتم توفير مساعدة منزلية أو أسطوانة أكسجين في البيت، وهذا ما حصل مع حالة إياد الدقر، وهو سوري ذو ثلاثين سنة. بعد الدراسة والتخرج في ألمانيا، في ميونيخ، انتقل إياد إلى بياتشينزا، حيث تزوج من عالمة ولاهوتية إيطالية، كانت فرانشيسكا بوكا، إياد كان يعاني من جميع أعراض فيروس كورونا لعدة أيام، ولكن لم يتم إدخاله إلى المشفى لتلقي العلاج. قالت الزوجة المنهكة: "كان زوجي يعاني الحمى حتى وصلت 41 ذهبنا إلى غرفة الطوارئ غالباً لكن الأطباء في المستشفى قالوا إنه لا يبدو عليه أنه في وضع حرج".

يوم الجمعة الماضي، عانى إياد من آخر أزمة تنفسية قاتلة وقال لزوجته: "فرانشيسكا، أنا أختنق"، ثم مات.

غادر تاركاً وراءه فتى يبلغ من العمر خمس سنوات والجالية الإسلامية في بياتشنزا في حالة حداد، ليس فقط على إياد، ففي منطقة بياتشينزا وبيرغامو، كانت هناك العديد من الأشخاص الذين لقوا حتفهم وتُرِكوا في المنزل لعدة أيام بعد موتهم، لأنه لم يكن هناك أماكن دفن في المقبرة، أو لأن العائلة يجب أن تنتظر عربة مدرعة تابعة للجيش الإيطالي لنقل الجثة إلى منطقة أخرى وحرقها، لكن الوضع بالنسبة للمجتمع الإسلامي قد يكون أسوأ بكثير. في قرية بيسونيا، في منطقة بريشيا، راقبت عائلة جثة امرأة، لأنه لا توجد منطقة دفن للمؤمنين المسلمين. وأثناء انتظار الضوء الأخضر من بلدية بريشيا، حيث توجد مقبرة إسلامية، ولكن حيث لم توافق بلدية بريشا، اهتم رئيس بلدية بيسونيا فيديريكو ليني بالموضوع بشكل مباشر.

وهذا وضع محزن في حالٍ مزر، لا يختلف كثيراً عن دراما اللاجئين في إيطاليا الآن: هربوا من الحرب والسجون السياسية والأمراض، والآن يغتالون على يد عدو غير مرئي يحتاج فقط إلى كائن حي ليستولي عليه ويدمره كلياً.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

لورا سيلفيا
صحفية إيطالية
صحفية إيطالية
تحميل المزيد