لا تنفك وسائل الإعلام العالمية، ولا الإعلام البديل من مواقع التواصل الاجتماعي على مستوى العالم، عن نقل أخبار فيروس كورونا القاتل، ولا تتوقف الإحصائيات عن تحديث نفسها. حتى باتت أخبار الداهم القاتل تتصدر نشرات الأخبار، طاغية في ذلك على أخبار الحروب ومفاوضات الدول حول القضايا المصيرية التي أودت وتودي بحياة مئات الآلاف من البشر. وتوقفت اجتماعات الدول الكبرى، وأصبحت عبر الوسائل الإلكترونية المحمولة على أثير الألياف الضوئية المزروعة في المحيطات، حتى لا يلمس البشر بعضهم بعضاً.
ولقد كان مشهد امتناع وزير الداخلية الألماني عن مصافحة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل خوفاً من الإصابة بفيروس كورونا، من الأكثر مشاهدة حول العالم، وذا تأثير كبير.
وبعد أن أعلنت منظمة الصحة العالمية طرق الوقاية من الفيروس الجائح، والتي كان منها المصافحة والملامسة والاختلاط، صار العالم أشبه بمدن الأشباح المعزولة، بعد أن كان إنسان القرن الحادي والعشرين يفتخر بقطع المسافات وتقريب الأحباب بالسفر، أو عبر وسائل التواصل والاتصال، فأعداد ضحايا الفيروس تتزايد يومياً، وتنتقل إحصائيات القتلى بالوباء من الصين كدولة حاضنة وناشرة للفيروس، إلى أوروبا العجوز، لتدخل إيطاليا وإسبانيا وفرنسا وبريطانيا ثم أمريكا سباق الأرقام، مع ذلك وفي ظل كل هذه السودوية التي بلغت القلوب الحناجر، وبعد أن أصبح العالم ينتظر حتفه، فإن جائحة القرن الحادي والعشرين تحمل في طياتها الخير وإن كان ظاهرها العذاب فإن باطنها من قبلها الرحمة.
عودة الأسرة بعد غياب
أول تلك الرحمات، هي عودة الأسرة بعد أن تباعدت شعورياً وفيزيائياً، فقد بعُد أفراد الأسرة الواحدة عن بعضهم بعضاً، ولم يعودوا مرتبطين بالأحاسيس والمشاعر والأفعال التي كانت تربطهم ببعض، الأولاد ما إن يحسنوا القراءة والكتابة ويحصلون على لوح إلكتروني، أو هاتف ذكي، ينفصلون روحياً عن الأسرة، ولو وجدوا بأجسادهم معها، وما إن يشب قليلاً فيتحول الانفصال الروحي إلى انفصال كلي، بالانتقال إلى بيت منفصل، أو على أقل تقدير يصبح بيت الأسرة عبارة عن فندق، يقضي فيه الليل ليصبح إلى السعي بين الأصدقاء والملاهي. هكذا استطاع كورونا أن يجمع الأسرة من جديد ليكتشف الآباء ما خفي من أبنائهم، وهنا، وبلا حجج، على الآباء الذين منعهم الفيروس من قضاء اليوم بطوله في العمل، أن يقدموا ما لم يستطيعوا أن يقدموه لأبنائهم بحجة العمل.
فالآباء الذين تركوا أبناءهم نهباً لمناهج تعليمية مصنوعة غربياً، والمؤصلة للأفكار الرأسمالية الاستهلاكية، عليهم أن يستفيدوا بمكوث الأبناء بين أيديهم، ليعلموهم القيم الإنسانية العظيمة التي نزل بها الأنبياء، فمهما حاولت المناهج التعليمية الظهور بمظهر راعي القيم، فهي في النهاية مناهج وضعية خاضعة لسياسات الدول وهوى الحكام ورغبتهم في تشكيل المجتمع الأفضل لهم، والذي يستطيعون حكمه.
لذا فإن القيم الإنسانية التي نزلت بها الكتب السماوية هي القيم الحقيقية المجردة، فلا الفلسفات ولا غيرها يمكن أن تقدم تلك الوجبة الأخلاقية المغذية لوجدان البشر، وصولاً لنشأة الإنسان المحب لأخيه ولو اختلف معه، لذا فمن عظيم التعليم الذي يجب أن يتعلمه الأبناء في خضم تلك القيم هو تعليمهم التفكير التحليلي والنقدي، وإن كانت بعض الدول تقوم بهذا الأمر، لكن المعايير النقدية والتحليلية لديها لا تتسق مع تلك المعايير التي نزل بها الدين الحنيف. فمعاييرنا في بناء التفكير النقدي التحليلي، هو ما جاء به الكتاب والسنة لينفع البشر لا الجماعة أو الدولة، وعليه يجب أن يقاس الفعل وإلا فلا. فإن كان ذلك فإن الأولاد سيكونون تقدميين، لا بتعريف المصطلح لدى الشرق والغرب، بل بتعريف القيم الإنسانية الحقة المستقاة من الدين، وبه يبنى العقل أو يعاد صياغته، وعليه يؤسس للترميم الأخلاقي المنتظر، بعد موجة الليبرالية المنفلتة التي سادت العالم في القرن الماضي.
تصحيح مسار المعدة
ومن لطف هذا الوباء على البشرية، تحولها عن العادات الغذائية السيئة، التي فرضتها الحياة الرأسمالية بنوعيها الليبرالية والسلطوية، فقد فرضت الرأسمالية على البشر نمطاً غذائياً سريعاً بغير فوائد حقيقية للجسم، وعادات غذائية مليئة بالدهون والسعرات الحرارية الفائضة والملونات والمنكهات الجاذبة بغير فائدة ترجى، بل ضررها أكبر من نفعها، فلقد أجبرنا الوباء للعودة إلى الغذاء الصحي والمكملات الغذائية اللازمة والتي افتقدناها من تلك العادات الغذائية التي قصد منها الربح لا الفائدة الصحية بالمكوث بالتغذية السليمة التي نصح بها الأطباء.
إيقاف تغوّل الليبرالية
وعلى الطرف الآخر لليبرالية، فقد وضع الفيروس حدوداً حقيقية لتلك النظرية المطلقة، والنظرة المسوقة لفكرة الليبرالية، فقد وضع الفيروس حدوداً للحرية الفردية، وإن كان لم يقترب كثيراً من حرية الفكر، لكنه وضع قيوداً لحرية التصرف، وأصّل أكثر لاحترام خصوصيات الإنسان، فقبل الليبراليين الحجر المنزلي، وعدم استخدام السيارات الخاصة، والإجبار على الحجر الصحي، وغيرها مما تدخلت به الدولة في تنظيم حياة شعوبها، وهو ما يعني أن النظرية تحطمت، وعلى منظريها ومعتنقيها أن يقفوا عند حقيقة وجود ضوابط لتنظيم الحياة، قد تفرضها الدولة وتطبقها بالقوة الجبرية، وقد تفرضها القيم والأديان السماوية. لقد استطاع الفيروس أن يُخرج القيم الإنسانية التي بداخلنا، والتي شوّهتها المادية والنفعية التي طغت على سلوك العالم، فمنذ أن عرفت الرأسمالية طريقها لحياتنا، وروّجت لها الأفلام، لتطمس النور الكامن في نفوسنا، فقد استطاع الفيروس أن يخرج طاقات التطوع وفعل الخير، لاسيما للمسنين الذين يصنفون في الغرب عالة، يأخذون أموال التقاعد التي يمكن أن تستثمر في إيجاد مشاريع للشباب، فهؤلاء الشباب أنفسهم هم من تحرك على العجزة، في صورة إنسانية لا نظير لها إلا في المدينة الفاضلة، التي لم يكتبها ولم يعرفها أفلاطون، ولكنها المدينة الفاضلة التي صورتها الأديان وأرادت بالرحمة بناءها.. هذه رشفة من كأس كورونا الذي لم نتجرعه، ولنا مع الكأس رشفات أخرى.
ياسر عبد العزيز هو كاتب وباحث سياسي، حاصل على ليسانس الحقوق وماجستير في القانون العام.
كما حاز على دبلوم الإدارة والتخطيط الاستراتيجي، وهو الآن عضو مجلس إدارة رابطة الإعلاميين المصريين بالخارج في اسطنبول ومدير مركز دعم اتخاذ القرار بحزب الوسط المصري.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]