تتوالى الأحداث في العراق بشكل متسارع، ويتنامى الصراع الأمريكي الإيراني على الأراضي العراقية، وخاصة بعد العملية التي أطاحت بقاسم سليماني، قائد الحرس الثوري الإيراني، وهو رجل إيران القوي في المنطقة، ومساعده الأول أبومهدي المهندس، مطلع العام الحالي، وهذا ما شكَّل تصعيداً جديداً في العلاقة بين أمريكا وإيران، التي ردت بخجل باستهداف قاعدة عين الأسد غربي العراق بعشرات الصواريخ، لكنها أتت بعد تنسيق وعلم الأمريكان، الذين تفهموا حرج النظام الإيراني أمام شعبه، فقد أبلغ مكتب القائم بالأعمال السويسري في طهران الجانب الأمريكي بتلك العملية قبل وقوعها بساعات، وهذا ما يفسر عدم وقوع خسائر بالأرواح لدى الجانب الأمريكي.
أذرع إيران في العراق، المتمثلة في الميليشيات التي تدعمها، بدأت باستهدافات متكررة للقواعد الأمريكية والسفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء شديدة التحصين وسط بغداد، وألحقت هذه الميليشيات بعض الخسائر بين الجنود الأمريكان، بالإضافة إلى أحد المقاولين البريطانيين في قاعدة بلد الجوية شمالي العاصمة بغداد.
ضربة أمريكية
تأخر الأمريكان في إدراك خطورة الموقف، وأن الأرض في العراق أصبحت رخوة تحت أقدامهم، لكنهم وضعوا خطة متكاملة لضرب النفوذ الإيراني في العراق، وقاموا بالفعل باستهداف خمسة مواقع للميليشيات الإيرانية في الأنبار وبغداد وبابل، وأهم تلك المقرات المستهدفة كان مطاراً قيد الإنشاء في محافظة كربلاء، حيث استهدفت مقاتلات F16 مخازن سلاح حزب الله العراقي، ودمرت خلال هذه الغارات مجموعة من الطائرات المسيرة (رقيب)، كانت تستخدمها الميليشيات في تنفيذ أهدافها داخل وخارج العراق.
ومع تصاعد التحديات ضد المصالح الأمريكية في العراق اضطرت الولايات المتحدة إلى وضع خطة شاملة للتعامل، قامت بتسريبها صحيفة نيويورك تايمز قبل أيام، عندما تناولت بعض جوانب خطة القوات الأمريكية التي تستهدف إنهاء الدور الإيراني في العراق. وهذا ما أيده وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في الاجتماع الأمني عالي المستوى مع مستشار الأمن الوطني روبرت أوبراين، الذي ينتمي للتيار المسيحي المحافظ.
لكن المعارضة من قادة الجيش الأمريكي في العراق كانت واضحة، حيث أكدوا في الاجتماع على توقع أحداث دموية وتصعيدية، وربما تكون القواعد الأمريكية نقاط استهداف لتلك الميليشيات بوضعها الحالي، ووضع احتمالية تدخل إيران بشكل مباشر. وهذا ما يعني حرباً مفتوحة مباشرة بين الولايات المتحدة وإيران، وهذا ما لا تريده الولايات المتحدة الآن، أو على الأقل في هذا الوضع الحالي. ورغم خسارة المجاميع الولائية المسلحة العشرات من القتلى والجرحى وأسلحة نوعية مختلفة خلال الاستهداف الأمريكي لها، فإنها لم تتعظ، واستمرت في قصف المواقع الأمريكية مرة أخرى، حيث استهدفت قاعدة التاجي وبعض المواقع التابعة للحكومة العراقية في محيط السفارة الأمريكية ببغداد.
القفز من سفينة إيران الغارقة
الولايات المتحدة أجرت اتصالات بمرجعية النجف التي تحاول هي الأخرى إيقاف خسارة ما تمتلكه من ثقل ديني لدى غالبية المكون الشيعي في وسط وجنوب العراق، الذي بدا يتمرد على مرجعيته. الرسالة الأمريكية كانت واضحة للمرجع الديني الأعلى، ولم تترك له إلا خيار دمج ميليشياته مع وزارة الدفاع العراقية لتحتمي بغطاء حكومي وقانوني. وهذا ما حدث بالفعل عندما قام وفد قيادي من المرجعية الدينية بزيارة لوزارة الدفاع العراقية، ولقاء وزير الدفاع نجاح الشمري والاتفاق معه على دمج ألوية علي الأكبر، وأنصار المرجعية، وفرقة العباس القتالية، وفرقة الإمام علي القتالية، حيث أكدت مصادر مطلعة أن الشمري رحب بالفكرة، وقرر أن يوسع دمج تلك الميليشيات، وفاتح جهات وقيادات حالية في حزب الله لاحتواء تلك الفصائل ضمن وزارة الدفاع العراقية، وربما خلال أيام يتم الإعلان عن ذلك.
القيادة الأمريكية اتخذت خطوات ميدانية على الساحة العراقية، وقلّصت من أعداد موظفيها الحاليين في السفارة الأمريكية لتنجب وقوع خسائر بين صفوفها، بل ذهبت أبعد من ذلك، عندما طلبت من القوات الفرنسية والقوات التشيكية وبعض القوات البريطانية الموجودة ضمن قوات التحالف الدولي التي تحارب تنظيم داعش الذي احتل أكثر من ثلثي مساحة العراق في عام 2014- مغادرة العراق.
خطوات أمريكية على الأرض
قامت القوات الأمريكية بأكبر عملية إعادة انتشار عندما سلمت قاعدة القيارة جنوب مدينة الموصل، وقاعدة K1 في كركوك، وقاعدة القائم في محافظة الأنبار، وآخرها كان يوم الإثنين الماضي، بالانسحاب من القصور الرئاسية بالموصل، والانسحاب إلى قاعدة عين الأسد في الأنبار، وقاعدة الحرير في أربيل، وإنشاء وتوسعة قاعدة جديدة في جبل سنجار، بعيداً عن مناطق ونفوذ الميليشيات الولائية الإيرانية في العراق.
وتشير كل التحركات الأمريكية الأخيرة إلى استئناف خطتها المؤجلة في ضرب المصالح الإيرانية بشكل مباشر، واستقدام قوات أمريكية خاصة من الولايات المتحدة لم يُعلن عنها، كما قامت بتعزيز قواعدها بمجموعة باتريوت، وهي منظومة دفاع جوي متطورة أرض-جو. وهذا ما يُنذر بتصعيد عسكري خطير داخل العراق، وربما يمتد لدول إقليمية، وهذا ما حدث بالفعل عندما قامت ميليشيات الحوثي باستهداف العاصمة السعودية الرياض بصواريخ إيرانية بعيدة المدى، كان آخرها ليل السبت الماضي.
ليشهد قادم الأيام عمليات عسكرية نوعية مع التحصينات العسكرية الأخيرة، ما لم تُعقها تعقيدات الداخل الأمريكي، الذي يشهد انتكاسة اقتصادية جراء تفشي جائحة كورونا وتداعياتها على القرار الأمريكي.
صحفي وكاتب عراقي عمل مع مؤسسات وشبكات اعلامية معروفة مثل رويترز والجزيرة.
ويشغل منصب مدير المركز الثقافي العربي الأوربي في فيينا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]