في اللحظة التي وطئت فيها قدمي الشارع بمدينة الرباط، يوم 16 مارس/آذار، شعرت بالصمت في الأرجاء كصفعة على الوجه. اعتادت أذني على فوضى الأصوات المستمرة، وإيقاع الرباط المجنون، إلى درجة أنني خفت أن أصاب بالصمم، أو ربما بالفيروس. أرى أناساً هناك، ولكن لا أحد يتكلم، لا أحد يصيح أو حتى يضحك. يبدو أن الطيور نفسها تسير على رؤوس أصابعها كي لا تُصدر صوتاً يزعج الصمت، يزعزعني هذا السكون!
حتى الأشجار السامقة وضخمة الجذوع في كل مكان تتحدث بغموض شرس، لم أشهد "آذار" كهذا في حياتي، كنت أتحمس تحمساً لقدومه حتى أحتفل بإكمالي عمراً جديداً، أو لكي أنظم قصيدة بأول مناسباته السعيدة: اليوم العالمي للشعر.
في آذار (مارس) تعودنا أن الاحتفال بالشعر هو إنصات للصوت الهامس للإنسان، لصوت دواخله، وهو الصوت الذي كلما علا وصدح صدحت معه مشاعر المحبة والسلام، فهو الصوت الداعي باستمرار إلى إنسانية الإنسان.
في آذار يأتي الشعر للتعبير عن صوت الحب الذي تريد الأصوات الأخرى؛ (أصوات البنادق والبارود والمشارط) أن تخنقه وتكتمه داخلنا كتماناً. في آذار الشعر هو إيماننا بأن "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، كما قال محمود درويش.
في آذار عرفنا عيداً للمرأة بكل شخصياتها النسائية، الواقفة على العتبة بين العقل والجنون، بين المجتمع والفرد، بما فيهم اللائي يحضرن الطعام والمائدة ثم يسِرنَ مبتعداتٍ ليُتحنَ مجالَ الأكل للرجال أولاً، مقدمات تضحيات لا نهاية لها، منكرات ذواتهن بعفوية. شهر كل تلك الشخصيات النسائية التي تعاني شرخ الانقسام بين العيش لأجل الآخرين وبين اتباع قلوبهن، شهر اللائي يخطئن ويتعثرن في طرقاتهن وتجرح ركبهن ولكنهن يتدبرن في كل مرة، وعلى نحو ما، أمر النهوض من جديد.
في آذار، وحتى العام الماضي، كان يعلو صوت التلفاز والمذياع بأغنية فايزة أحمد الشهيرة "ست الحبايب يا حبيبة"، احتفالاً بصنف خاص من النساء "الأم"، تتزين المتاجر، وتبزغ أفكار تقديم الهدايا لها على الواجهات، كما تبتهج محلات بيع الورود. أذكر في السنة الماضية أنني كتبت بمناسبة عيد الأم صفحات معنونة بـ"شهر الأم والشِّعر"، وها أنا بعد سنة يسيل مدادي بالحسرة لا بالاحتفاء.
في العشر الأواخر من مارس (آذار) كانت أبواب مسارح الرباط تبدأ بإلصاق إعلانات عروض مسرحية بمناسبة اليوم العالمي لأبي الفنون، الذي يحتفل به العالم بأسره، نظراً لرفعة مكانته وأهميته، فكثيراً ما تتداول بين الناس مقولة "أعطني خبزاً ومسرحاً أُعطِك شعباً مثقفاً".
أما الآن فأستلقي على سريري في هذا النهار تحديداً، إذ يبدو أن العزلة التي لطالما استمتعتُ بها في غرفتي تظلم مزاجي. ما الذي أفعله هنا بالضبط؟ بعيداً عن الرباط، عن كليتي، عن المقهى الذي تجري فيه رائحة قهوتي المفضلة بساحة الجولان، والمتميز بتصميمه الكلاسيكي، وموسيقاه الهادئة. لكن ما أقوم به الآن يشبه بشكل أو بآخر كل ما يفعله الفرد في وطني وباقي الأوطان. إن مغربنا في هذا الوقت معقود بذيل الرياح العائمة، حوله مثل طائرة ورقية انقطع حبلها.
إن آذار اليوم شهد مدفعاً كبيراً يهدد العالم، والبشر في وجهه في مختلف أنحاء الكرة الأرضية، إنه الوحيد الذي نجح في خنق تعبير الشعر عن صوت الحب. فنسينا نهاره وليله، ثم خفنا الحب، وأيام توثيقه، وعقد قران الأحبة. أغلقت صالات الأفراح، وغابت أجمل القصائد الملحنة التي ما عرفت الغياب يوماً عن زفاف المحبوبين. لو حضر محمود درويش هذا الشهر لقال "على هذه الأرض ما يستحق مكوث المنازل".
هذا العام في آذار أولى ضحايا هذه الجائحة في بلادنا امرأة، وكل الشخصيات النسائية مهددة، شأنها شأن الرجل، بقذائف المدفع.
أغلقت محلات الورود، تلك المحلات التي كانت تبهج وتثير أنظار كل المارة أمام مقر الصندوق الوطني للإيداع والتدبير. هناك حيث لا يتوقف الباعة عن دعوتك للشراء. أما الراديو والتلفاز فلا متسع لديهما للإعلان عن اقتراب عيد الأم، فأخبار الفيروس والموت جوالة في كل القنوات والصحف والإذاعات.
"أعطني مسرحاً مغلقاً أُعطك مريضاً مرهقاً"، إنها أنسب العبارات حالياً التي استقبلت بها يوم الحادي والعشرين من هذا الشهر الكئيب. حتى جمال مذاق القهوى غاب عن أفواهنا بعد إغلاق المقاهي، إنني ملزمة بارتشاف فنجان مر لا يزيده السكر من المذاق إلا أسوأه.
في آذار، الذي انتهى بحزن، أرى نفسي والبيت أنداداً، قد أكون راكبة الآن قطار الموت دون دراية مني، كل شيء ممكن! كنت دائماً أحب تحدي القدر والعبث معه بلا هوادة. ها أنا أعلن انتصار القدر وسقوط مخططاتي تباعاً الواحد تلو الآخر.
كنت فيما مضى أستلّ على نحو ما الإلهام من الحياة الواقعية، مثل طائر العقعق الذي لا يستطيع أن يمسك نفسه أمام الأجسام اللامعة. ها أنا ذا أفرد جناحيّ على وسعهما في السماء الرحبة، باحثة عن أمر غير "الجائحة" للكتابة عنه، لم أجد موضوعاً غيرها ينتزعني انتزاعاً، وأينما قلّبت النظر أجد أننا فعلاً نعيش وسط متاهة كبرى، بطلها "فيروس كورونا المستجد".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.