غاب الأستاذ فجأة، أغلقتُ باب مكتبي وتوجهت للقاعة، عددهم يقارب العشرين، وأعمارهم لم تتجاوزها، بين مكتبي وقاعة الدرس بضع خطوات، حاولت فيها أن أفكر فيما سأملأ به فراغ ساعتين.
بالتدريج استطعتُ أن أشركهم في نقاش بدأته مع من كان يجلس في أول الصف حول المسار الدراسي والتوجيه وعلاقتهما بمهنة المستقبل، ومع دخول الأغلبية في الأخذ والرد بدأ النقاش ينحرف، ليتحول في العمق تشاؤمياً مظلماً بكثرة المحبطات التي احتجوا بها في (هاذ البلاد) كما وصفوها من فساد ورشوة وقبول بشرط المحسوبية وغياب الفرص والمسؤولين… فوجدت نفسي كطفل، أحاول الإمساك بفراشة وسط ترسانة هائلة من المشاكل والمحبطات، بذلت مجهوداً كبيراً في ترتيب أفكاري، محاولاً دفعهم خارج حالة السخط باتجاه منطقة أكثر هدوءاً، نستطيع فيها تفسير الأمور وفهمها بشكل دقيق، وإقناعهم بتصور يجعلنا جميعاً مسؤولين أمام ما نعيشه، فكان الرفض واضحاً على الوجوه، والحل عندهم واحد؛ الهجرة.
لكن ما هزّني فعلاً ليس حالة اليأس والإحباط، ولا تلك الرغبة الملحة في الهجرة، وإنما كلمة قالتها إحدى التلميذات قبل أن يدق الجرس بقليل، عندما خاطبتني قائلة:
"أستاذ كل هذا من علامات الساعة"
فتحركت الرؤوس تشير بالصواب على ما قالت، أحسستُ أنهم جميعاً يستندون إلى نص أو إلى قاعدة تُثبت لهم حالة الجبرية التي نعيشها، وكلهم ينتظر الفرصة كي يعرض حجته.
كتبت هذه السطور في مذكرتي قبل أشهر من ظهور وتفشي فيروس كورونا، وتذكرتها ليلة السبت الأسود -إن صح التعبير- عندما خرج العشرات يكبرون ويهللون في شوارع بعض المدن المغربية، في خرق للإجراءات الاحترازية التي أوصت بها منظمة الصحة العالمية وتسهر السلطات على تطبيقها، لتنتقل العدوى بعد ذلك إلى مدن عربية أخرى.
قلت في بداية هذه الأزمة لبعض الأصدقاء إننا غير مهيئين لمثل هذه الأزمات أبداً، وكنت أقصد أن منظومتنا الفكرية -على غرار الصحية- أمام أول اختبار حقيقي منذ عقود، فهذا الوباء لن يختبر فقط منظوماتنا الصحية والاقتصادية، بل والفكرية كذلك، ومدى جاهزيتها للتعامل مع مثل هذه الأزمات، وقد بدأ الأمر يتضح عندما أُعلن عن تعليق الحضور بالمدارس، وما تبعه من موجة هلع وإقبال هستيري على شراء المواد الاستهلاكية.
وامتلأ الفضاء العام بتفسيرات المؤامرة، والغضب الإلهي، ومنهم من أنكر وجود الوباء أصلاً. وكلما ازدادت التدابير الاحترازية صرامةً، واشتدت الأزمة أكثر فأكثر، اتَّضح لنا مدى عمق الخلل الذي يعاني منه الإنسان العربي، على مستوى بنيته العقلية الملتبسة، والاختلاط الحاصل عنده بين ما هو ديني وثقافي، وعدم قدرته على النقد والتحليل والتركيب، وتعامله بارتياب مع كل شيء، وقد يتطور الأمر إلى حالة مرضية لدى البعض.
الاحتجاج بغضب الله وبالقضاء والقدر وبالمؤامرة لتفسير واقع منظومتنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ليس حكراً على هؤلاء التلاميذ، وإنما هو جزء من عالم الأفكار الذي نعيش ونتغذى عليه نحن المجتمعات العربية، والذي يُسهم بفاعلية في بلورة وصياغة الوعي الجمعي وقيادة الأحداث على أرض الواقع، والأخطر هو إشاعة حالة من عدم الاستقرار أو الدهشة أو الرفض، فكل ما يحدث هو قَدَر محتوم، لا إمكانية لمقاومته أو محاولة تغييره.
وكل هذا ليس سوى نوع من التحلل من المسؤولية الذاتية، والاكتفاء بتوزيعها على الرئيس، وهذه الدولة، وهذا المسؤول، وما تبقّى يعلق بالقضاء والقدر، لتبرير الفشل الذي نعانيه كأُمة، في الوقت الذي تتسابق فيه الأمم للسيطرة على الأزمة، والبحث عن دواء تفيد به البشرية، استيعاباً منها بأن العلم والمعرفة هما أداتا التمكين في هذا العصر.
وقد شرح هذه المسألة بالتفصيل الدكتور "مصطفى حجازي"، في كتابه "التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور"، عندما تحدّث عن القدرية كأسلوب الدفاع الأخير للإنسان العربي، لانعدام قدرته على التأثير والتحكم في الظروف وتفسير الأحداث. ويُرجع ذلك إلى عدة عوامل، أهمها التنشئة الاجتماعية ونظم التعليم، فعقلية الإنسان العربي ليست علمية أبداً، بسبب كثرة غرس التفكير الخرافي في ذهنه منذ الطفولة، إلى جانب نوعية التعليم الذي تلقاه، والمُتصف بعدم تكامله في الشخصية، ولِبُعده عن تناول القضايا الحياتية والاجتماعية.
بهذه البنية الفكرية قد نرسل للطبيب انتحاريين يريدون تفجير أنفسهم في الجميع، وليس مرضى يطلبون العلاج، وذلك بسبب الكثيرين ممن يؤمنون بأنه يمكن لغواصة في عمق البحر أن تطير فجأة نحو الفضاء، عقليات لا تؤمن بالأسباب والسنن الكونية، وبذلك نكون مرشَّحين لتلقي ضرباتٍ مؤلمة، لأننا أمام أحد عدوين كورونا على صَهْوة الجهل، ونحن عُزّل.
إن من يتصور أن هذه الأزمة الوبائية التي نمر بها ستُحدث نقلة حادة في النُّظم الاقتصادية والسياسية للعالم عليه أن يكون حذِراً في تعميمه، فالمجتمعات العربية لها خصوصيتها، فبالرغم من انفتاحها على النظم الاقتصادية ومظاهر الحياة الحديثة، فإنها تبقى تقليداً، ومظاهر وظيفيه تعكس ثقافة الاستهلاك لهذه المجتمعات لا غير.
يقول ابن خلدون: "المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيّه ونحلته وسائر أحواله وعوائده".
ولا أظن أن هذه الأزمة ستُسهم في تآكل المرجعية المتحكمة في سلوك ونمط عيش الإنسان العربي، بقدر ما أنها ستزيده تعرية.
في كتابه "التراث وإشكالياته الكبرى نحو وعي جديد بأزمتنا الحضارية"، يدافع الدكتور "جاسم سلطان" عن فكرة أن أزمة الإنسان العربي أسبابها ليست خارجية (مؤامرة، قضاء وقدر، هُم…) بل في عالم الأفكار الذي يتغذى عليه، والذي يفتقد للمنطق القويم، وأن الإطار الفكري القائم داخل هذه المجتمعات هو المسؤول عن المشهد المتردّي لواقعه السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ولا تغير إلا بإعادة النظر في القضايا العقلية التي أنتجت هذا الواقع، وهذا ما يدعمه المنطق السوسيولوجي، باعتبار أن التغير الاجتماعي من أهم الظواهر الاجتماعية التي لقيت اهتماماً كبيراً من قِبل الباحثين، حيث يذهب بعض المنظّرين إلى أن الثقافة كانت دائماً أكثر أهمية في قيادة التغيّر الاجتماعي، وعليه فإن "كورونا" لن يؤثر إيجاباً في حياتنا كمجتمعات إلا من باب تغيير الأفكار وتغيير نظرتنا إلى أنفسنا كأفراد أولاً، وكجماعات ثانياً، وإلى الآخر، وإلى العلم.
وباء كورونا لن يُبيدنا، وهو ليس آخر تحدٍّ سيواجه البشرية، لكنه سيُغير العالَمَ، فإذا نجونا هذه المرة فهي فرصة، فقد لا ننجو في المرة القادمة ما دمنا غارقين في مستنقع التخلف الفكري، والتصلب في الآراء والمواقف، والتثاقل في صياغة نموذج فكري وثقافي عربي، يمتلك مشروع نهضته، وقادر على مواجهة تحديات العصر.
والسؤال هنا، إلى أي حدٍّ سنستفيد وسنعتبِر من هذه الأزمة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.