أولُ أمسٍ شعرتُ بأنَّي أودُّ الخروج من جسدي، لم يكن هذا الجسد يكفيني ولا يُلبي حاجتي، أردت أن أنتزع روحي منه وأطيّرها، تمنيتُ لو كان بإمكاني أن أُصيّرها شكلاً آخر يخفف عن نفسي وحشتها هذه، وكان هذا لأني مُنعتُ الحياة التي بذلتُ لأجلها كثيراً، تركتها على عتبة المنزل وأُجبِرتُ على أن أحجرَ نفسي داخله.
الأيام الأولى كانت بمثابة إجازةٍ من الحياة السريعة، شعرتُ أنَّ العالم والوقت قد توقفا الآن وأعطياني فرصةً للتنفس وربّما الانهيار إن أردت، كأن الدنيا مسحت على رأسي بخفةٍ وقالت: "ركضتِ كثيراً هذه الأيام، وحبستِ تعبك داخلك، يمكنكِ الآن أن تجثي على ركبتيك وتبدأي البكاء دون أن تُحاسبي على هذا في المشهد الأخير". صار الوقت لي، رغم أنّها المرّة الأولى التي لم أرغب ولم أتضرع ليحدث هذا، ولم أحتَج هذا أيضاً، لكنّي قبلتها، فكيف لا أقبل ما يأتي من الله؟ كيف لا أقبّل الابتلاءات والهدايا التي يقدّمها الله اللطيف الخبير لمن هم دونه؟
لكن بعد أن انقضت الأيام الأولى، وبدأنا نصل للأسبوع الثاني من حظر التجول الرسميّ، وربّما الثالث من حظر التجول الذي فرضته على نفسي وقايةً من انتقال العدوى، هُنا شعرتُ أنَّ حياتي التي سعيتُ لها طويلاً تقف عند عتبة البيت ذاتها تلوّح لي وقد سئِمَت انتظار خروجي من المنزل، تقول لي: "وداعاً، انتهى طريقنا هُنا". أردتُ أن أبكي، لا أرغب بأن أخسر تلك الحياة، وقد غفلتُ عن الاستعداد لئلا يكون هذا العمر كافياً للدرجة التي لا أجدُ فيها متسعاً للتعريف عن نفسي أو ترك شيئاً حقيقياً ناضجاً ومتزنّاً مني! وغفلتُ ويا أسفي عن أنَّ الموت سيطرق بابنا بأيّ لحظةٍ، مع "ڤيروس كورونا" أو دونه، وأنَّنا لا نملك إلا الأخذ بالأسباب وتأدية ما علينا من واجباتٍ، وعيش ما سنعيشه كاملاً قبل أن ينتهي أجلنا وفرصنا.
تلك الحياة التي أُجبرت على وضعها بالخارج، سعيت لها لسنواتٍ، حاولت كثيراً للوصول لها ثم للاعتياد عليها، لقد أخذ الأمر مني عمراً وقلباً كاملاً، كان هذا حلمي، كان دليلي! لكنّي أردت أن أترك أثراً منه قبل أن أموت، لا أقصد أن أصير بطلةً خارقةً ولا أن أترك أثراً معنوياً في قلوب ونفوس الناس، بل كان أمراً أهم من هذا -ببنظري-، أردت أن أترك شيئاً يعرّف من لا يقابلوني بي، ويدلّهم عليّ دون أن أجالسهم، وأن أختار أنا هذا الشيء، نصّاً، كتاباً، رسمةً، صورةً… أيّ شيءٍ تصنعه يداي من قلبي بشكلٍ متقنٍ وجودةٍ عالية ليليق به أن يكون بديلي في الحياة بعدما أغادرها، ويبهر الناس كأنّه البريقُ في عينيّ.
الآن، تجردتُ من الحياة التي صنعتها لنفسي واعتدتُ عليها، صار عندي وقتٌ أكبر مع نفسي وأقل مع الٱخرين، صار على هذا المنزل أن يصير العالم بالنسبة لي، تماماً كما الطفل في فيلم "Room" الذي ظنَّ أنَّ غرفته هي عالمه وموطنه، وأن الكون ينتهي عند عتبة الباب، الفرق بيننا أنّه لا يعرف أنّ عالماً أعظم وأكثر رحابةً وجمالاً ينتظره في الخارج، وأنا أعرف!
كنتُ مُلتَحفةً في سريري، دقت ساعة منتصف الليل وأنا أفترش أفكاري، كان الأمر أشبه بلحظة النهاية، توسلات البقاء، عذوبة الذكريات، ومرارة الندم، ذرفتُ دمعتين أو ثلاث، والتزم نظري السقف، رأيتُ نفسي وأنا أقرأ بانتشاءٍ لجبرا إبراهيم جبرا، طه حسين، زكريا تامر، وشهلا العجيل وغيرهم من الأدباء… حين كنتُ أقرأ أعمالهم كان يختلجني شعورٌ بالغبطة، كنتُ أتحسس ورق كتبهم كأنّي أمرر أصابعي على كنزٍ معتّقٍ، شعرتُ أن هؤلاء وغيرهم من الأدباء في لحظةٍ ثريةٍ سيجمعون مجموعةً من الأطفال والشُبان حولهم وسيعتلون كرسياً وسطهم، ليسردوا لهم بجلسةٍ دافئة عمّا قرأته أنا في كتبهم هذه، سيحدّثونهم عن الفقر الذي عارضه جبرا وصوّره لنا بأبهى طريقة، وعن المآساة عند طه حسين وكيف كسر حاجز ورهبة العمى عنده، وقبل هذا عن محاولاته المتكررة للهروب من المنزل حتى يتسنّى له سماع الشاعر وحضور جلسة غنائه، وسيعرّفهم زكريا تامر على الطفولة، الشقاوة والشهقات. أما شهلا العجيلي فستغمرهم بأحاديث الأخوات والحياة الرغيدة بالأهل في سوريّة، حلاوة الأمهات، ستهديهم القبلات الحنونة، ولا أعرف إن كانت ستحدثهم عن الحرب أو عن سمائها الخاصّة، لكنّهم جميعاً سيحدّثونهم عن مغامراتٍ خاضوها في الزقاق القديمة، وعن معاركٍ صغيرة تجاوزوها في سنٍ مبكرةٍ بفعل الظروف، وعن أطيب مراحل الطفولة، عن الركض الطويل والأرجل الحافية. فكرتُ: ماذا عني؟ ماذا عنّا؟ عمَّ سنخبر الأولاد بعد رحلتنا هذه؟ وما الذي سيحكيه عنّا التاريخ في حربنا ضد هذا الوباء العالميّ؟
في غمرة الأسى، وغمرة الخوف… لمسةٌ ما، من تصوراتنا المسبقة، وأحلامنا البطيئة، ومن الفرص التي لم نحظَ بها، من خلف كلّ هذا، مُدَّت لي يدٌ رقيقة فهدأت، فهمتُ حينها أنَّ الأمر يستحق أن يُعاش، وأن هذه الأيام والصعاب تستحق أن تدّون، أن نُحسن التصرف ونفكر بحكمة يعني أن نختار ما سيُكتَب عنّا في التاريخ، وما ستدرسه الأجيال القادمة في مقرر مساق التاريخ، فالتاريخ سيُكتب على أيّ حالٍ ولكنّ الاختلاف من سيكتب التاريخ وما الذي سيُكتَب.
أغمضتُ عينيّ مستسلمةً للنوم، وأنا أعرف أنَّ الحياة ستنتظرني عند عتبة الباب، وأنَّ ما هو أمام العتبة أهم مما خلفها اليوم، وأنَّ فرصاً كبيرة تجلس بقربي تنتظر الصباح حتى أبدأ بها، فأمتلأ لأجل ما أحبّ أن أفعله في الخارج.
لا أعرف ما الذي حصل، لكنّي كلّي يقين بأن الأمر يستحق أن نصبر كثيراً ونحاول أن نكتسب وعياً أكبر في كلّ يومٍ، حتى نوثّق هذه الأيام على أنّها الأيام التي صنعتنا من جديد، وقَوّت شوكة عقولنا وفكرنا، وأن نجمع الفتية حولنا ذات مساءٍ لنحدّثهم عن أيام "الكورونا" وحظر التجول، التعب والخوف مع الضحك والأمل، والحبّ برفقة العائلة، مع الشوق للخارج ومغامرات الأشقياء في محاولات الخروج للخارج، من نجوا ومن سُجلوا في قوائم الراحلين بالعبرات، الرغبات النبيلة والحبيبة.
ذات يومٍ… سنقول: "مرّت بلادنا ببلاء الكورونا ومرَّ".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.