أنا أغير! لا إطلاقاً
أنا بنتي مش غيورة.. بالعكس دي شخصيتها جميلة
ثم يهتف أحدهم بازدراء: فلان ده طلع غيور أوي
هل تبدو العبارات السابقة مألوفة لك؟! هل سمعتها قبلاً أو قلت أنت ما يشبهها؟! هي ترددت داخلك بعض منها كلما سمعت كلمة (الغيرة)؟!
إذا كان الجواب نعم، فاطمئن أنت لست وحدك. في الحقيقة أنت تمثل الأغلبية العظمى في معظم دول العالم، وعلى رأسها الدول المتقدمة.
الغيرة هي شعور يمر به جميع البشر دون استثناءات. وقد ثبت أنه يبدأ في الإنسان من عمر شهور قليلة بعد ولادته.
خلقه الله فينا ضمن منظومة المشاعر التي تعمل داخل نفوسنا. لكنه أحد تلك المشاعر "سيئة السمعة"، التي اكتسبت طابع إنكار ورفض من المجتمع ومن كثير من الناس باعتبارها شعوراً سيئاً يسبب سلوكيات خاطئة، بل وكارثية بعض الأحيان.
لن أتحدث اليوم عن الغيرة بين الرجل والمرأة فقط.. بل سأتناولها من زاوية أعم وأشمل تنعكس على الإنسان بشكل عام في كل حياته.
ما هي الغيرة؟!
عندما حاول علماء النفس دراسة الغيرة كشعور داخل نفس الإنسان، توصلوا إلى أنها شعور مركب يتضمن عدة مشاعر أخرى. تختلف هذه المشاعر من شخص لآخر، ومن موقف لآخر.
أحياناً هي شعور بالغضب يصحبه احتياج نفسي عاطفي وضعف في الثقة بالنفس.. وأحياناً هي مزيج من الاحتياج النفسي للإنجاز والطموح والشعور بتقدير الذات.
وبالتالي ينتج عن الغيرة مجموعة من السلوكيات، تختلف أيضاً باختلاف المشاعر الموجودة داخل صاحبها.
قد تجد شخصاً ناجحاً في حياته العملية فتنظر له بإعجاب متمنياً أن تحقق أنت أيضاً النجاح الذي تطمح إليه. وقد تجد شخصاً ناجحاً فتشعر نحوه بالضيق والغضب متحسراً على نفسك التي تستحق هذا النجاح لكنها لم تصل إليه.
الكثير من المواقف اليومية التي تمر بنا جميعاً تعكس مشاعر غيرة قد لا ننتبه إلى وجودها داخلنا. هي فقط تولد بنفوسنا وتؤثر على أفكارنا وسلوكياتنا دون أن ندري ما خطبنا.
لماذا ننكر الغيرة وننفي وجودها داخلنا وكأنها مرض؟!
إجابة ذلك السؤال "كما ذكرت سابقاً" هي السمعة السيئة التي اكتسبها ذلك الشعور. في كثير من المجتمعات، يتم النظر لمن يشعر بالغيرة على أنه شخص ناقص به عيوب خطيرة. لا على أنها شعور مثل أي شعور يمر به الإنسان. فقد نحزن، نفرح، نحبط، نتحمس، نغير..
بالطبع هناك حالات تطرف يزيد فيها الشعور لحد المرض، مثل أي شعور تاني يمر بنا ويتعدى مستوى الاتزان النفسي. وحينها فإنه ينتج عنه العديد من السلوكيات المؤذية والمضرة لصاحبها ومن حوله.
لكن الغيرة "حتى ككلمة" أصبحت تشبه السبة التي نصف بها من يسيئون معاملتنا. فهم يفعلون هذا لنا لأنهم يغيرون منا.
وذلك يحدث في مجتمعات وثقافات مختلفة حول العالم، لكنه يحدث بنسبة أكبر وأعلى في مجتمعاتنا العربية.
الحقيقة أن تلك النظرة للغيرة هي ما تدفعنا لإنكار وجودها داخلنا. وبالتالي نكبتها في نفوسنا معتقدين أن الأمر مر بسلام. إلا أن تلك المشاعر المكبوتة تظل داخلنا تؤرقنا وتولد معها كثير من المشاعر السلبية الأخرى، حتى تبدأ في الظهور على السطح في شكل أفعال وأفكار سيئة غير مبررة. أحياناً عن قصد وأحياناً دون وعي منا بما يدور داخل نفوسنا.
الوجه الآخر للغيرة
الغيرة "مثل أي شعور آخر" وظيفتها الأساسية أن تخبرنا باحتياجاتنا النفسية. فالمشاعر هي صوت النفس وحديثها إلينا. فإذا تواصلنا معها بشكل سليم فإننا نحسن كثيراً إلى أنفسنا ونصل لمستوى كبير من الاتزان والسواء النفسي الذي يسبب لنا السعادة والسلام الداخلي.
اقرأوا معي تلك القصة القصيرة التي توضح لنا مدى مشروعية مشاعر الغيرة داخلنا جميعاً، وكيف يمكن أن نتعامل معها:
كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- ذات مرة عند إحدى زوجاته (ويقال إنها السيدة عائشة)، وكان بعض الصحابة موجودون. فأتى خادم يحمل صحناً به طعام من لدى زوجة أخرى. وإذا بالسيدة عائشة، تلقي بذلك الصحن أرضاً فينكسر الصحن ويُسكب منه الطعام. وهنا كان رد فعل الرسول الذي سنتوقف عنده للتعلم منه. قام الرسول بمسك الخادم عنده حتى ينتهي هو من حل الموقف، وجمع -صلى الله عليه وسلم- قطع الصحن المكسور من على الأرض، ودخل وضعها في مقتنيات السيدة عائشة، وأحضر من أوانيها صحنا ًآخر سليماً أعطاه للخادم يعيده للزوجة الأخرى. وأثناء فعله لكل ذلك لم يقل إلا جملةً واحدة: (غارت أمكم).
هكذا بمنتهى القبول والتفهم، يعلّمنا الرسول أن الغيرة شعور طبيعي يمر به أي إنسان، حتى أمهات المؤمنين. وأن علينا أن نتقبله دون لوم صاحبه ولا إنكار هذا الشعور عليه.
فإذا كانت الغيرة مذمومة وشعوراً سيئاً يجب أن ننكره، فهل يعقل أن يصف بها الرسول إحدى زوجاته!
الغيرة هي رسالة توصلها لنا نفوسنا تبلغنا بها أنها تحتاج شيئاً ما. وعلينا أن نعمل نحن على فك شفرة الرسالة لمعرفة هذا الاحتياج، ثم العمل على إشباعه والوصول إليه بشكل صحي.
أذكر عندما حكى د. إبراهيم الفقي -رحمه الله- في إحدى ندواته عن بدايته العملية، وكيف أنه كان يعمل في غسيل الأطباق في مطعم فخم، وكان ينظر لصاحب المطعم ويقول في نفسه: لِم لا أكون مثله!
وقتها عرف أنه يطمح بأن يمتلك مشروعاً كبيراً يكون هو صاحبه.
ثم دفعته غيرته هذه للسعي والاجتهاد والعمل حتى حقق أعلى مما كان يطمح إليه.
كيف أستفيد من الغيرة وأجعلها تعمل لصالحي لا ضدي؟!
أولاً القبول..
أن تغير نظرتك لشعور الغيرة. تغير مفهومك عنها، فكرتك عنها وعن شخصية من يشعر بها. تلك هي أول خطوة في القبول.
تتبعها خطوة هامة لتحقيق هذا القبول، وهي الممارسة. ممارسة القبول.
فبعد تغيير نظرتك ورؤيتك للغيرة، ستمر حتماً في موقف أو آخر بمشاعر غيرة، هنا يأتي دور ممارسة القبول. قد تجد نفسك في أول الأمر ما زلت ترفض هذا الشعور داخلك، وتنكره. واجه نفسك أنك فعلاً تشعر بالغيرة، وأنه لا بأس بهذا إطلاقاً.
فأم المؤمنين غارت.. كبار مدربي التنمية والتطوير غاروا.. البشر من حقهم أن يشعروا بأي شعور يمرون به.
ثانياً فك شفرة الرسالة
قلنا سابقاً إن الغيرة شعور يأتي ليوصل لنا رسالة من أنفسنا. علينا بعد قبوله، فتح تلك الرسالة وقراءتها للتعرف على ما بها.
حدّث نفسك
نعم أنا أشعر بالغيرة.. حسناً مم أشعر بالغيرة؟ ما السلوك الذي رأيته جعلني أغير؟ ما المعلومة التي عرفتها ولدت عندي شعور الغيرة؟
هل كان زوج صديقتي التي يعاملها جيداً أمامي، هو ما أشعرني بالغيرة؟
إذا فقد تكون نفسي تخبرني أنها تحتاج لبعض الاحتواء والحب.
هل معرفتي أن زميلي قد حصل على ترقية في عمله، هي التي أشعلت داخلي مشاعر الغيرة؟
إذاً قد تكون الرسالة التي تبعثها لي نفسي أنني أطمح لمستوى أعلى في المجال المهني.
ثالثاً التخطيط والعمل
الاكتفاء فقط بمعرفة الرسالة وراء مشاعر الغيرة، لن يؤدي لإشباع الاحتياج النفسي الكامن وراءها.
بل سيبقى هذا الاحتياج قائماً، وسيظل يبعث لي رسالة تلو الأخرى، حتى يبدأ في توليد بعض السلوكيات المؤذية والمشاعر السلبية.
إذاً من المهم جداً بعد قراءتي لرسالة الغيرة الخاصة بي، أن أبحث عن كيفية تحقيق الهدف الذي أريد الوصول إليه لإشباع احتياجي النفسي.
فمثلاً في مثال الاحتياج للاحتواء والحب، قد تذهب الزوجة لزوجها تخبره أنها تحتاج منه دعماً عاطفياً هذه الأيام. وأنها تفتقد مشاعره وعواطفه تجاهها.
وفي مثال الجانب المهني، قد يحتاج ذلك الرجل أن يضع خطة مهنية لنفسه، بها طريق واضح يكتسب فيه مهارات ومستويات أعلى في مهنته، لكي يستطيع بلوغ مستويات أعلى مهنياً. وقد يلجأ حتى لمدرب مهني يساعده في تلك الخطوة إذا لم يستطع هو القيام بها بنفسه.
خلاصة القول إن الغيرة شعور هام جداً يعرفنا المزيد عن أنفسنا واحتياجاتنا.
وهناك طريقان للتعامل مع مشاعر الغيرة، ونحن من نقرر أيهما نسلك..
إما أن تكون الغيرة محركاً غاضباً يدفعنا لكره من نغير منه، ونسيء معاملته أو نتمنى له الضرر. ونسير في طريق الحقد والبغضاء. ونؤذي أنفسنا التي لم نشبع احتياجاتها، بل أثقلنا عليها بكل تلك المشاعر السلبية.
أو تكون الغيرة محرك طموح يدفعنا للعمل على تحقيق أهدافنا وتلبية رغباتنا. ونسير في طريق السعادة والسلام الداخلي الذي يتحقق بإشباع احتياجاتنا النفسية والتواصل معها وملء نفوسنا بالمشاعر الإيجابية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.