أصدر الفيلسوف الفرنسي المعاصر ميشال أونفراي مؤخراً كتابه الجديد بعنوان: "عظمة شعب صغير".
ينشغل هذا المُؤلّف الجديد بحركة أصحاب السّترات الصّفراء بفرنسا، التي شرعت منذ مايو/أيار 2018 في احتجاجات متواصلة ضدّ غلاء المعيشة، والتي دعت إلى تخفيض قيمة الضرائب على الوقود ورفع الحد الأدنى من الأجور. يدافع الفيلسوف عن أصحاب السترات الصفراء مركّزاً على مشاكلهم وعلى حجم معاناتهم فينعتهم "بالشّعب العظيم"، حيث يتصوّر أنّ هذه الفئة الاجتماعية المنهكة مادياً والمهمّشة والمقزّمة قادرة على أن تقلب الموازين لصالحها. إنّ نضالها في تقديره هو ما يصنع عظمة الشعب بحق.
يستعمل أونفراي في مؤلفاته الأخيرة استعارات "الصغير" و "الكبير". وكانت غايته من مثل هذه الاستعارات، هو نقد أنماط التفكير والأيديولوجيات الكلاسيكية المتعارضة أي اليمين واليسار، الليبراليين والمعادين لليبرالية، التقدميين والقائلين بمبدأ السيادة الوطنية. حيث لابد من تجاوز كل هذه الأزواج المفهومية واختزالها في زوج مفهومي عام هو "أصحاب السلطة" و "من تمارس عليهم هذه السلطة".
نحو الثورة الجديدة
لم تعد الثورة بمعناها الماركسي أيضاً أفقاً وحيداً للنضال اليساري، لا بل إنّها لن تفلح في اجتثاث الأنظمة السياسية الفاسدة على نحو عنيف ومباغت.
يبدو من الضروريّ، حسب أونفراي، صياغة تصوّرات جديدة تخرجنا من بوتقة الثنائيّات الماركسيّة الكلاسيكيّة، على غرار المفهومين الشهيرين: "العمّال" و "البرجوازية". لأنّ تأزّم واقعنا الإنساني الراهن لا يمكن حصره في إطار مشكل صراع طبقي بين طبقة شغيلة كادحة وطبقة مالكة لوسائل الإنتاج الفلاحية أو الصناعية بل هو أعمّ من ذلك بكثيرِ. لا بد أن يواجه الفكرالنقدي كل أشكال التسلط ضدّ الفئات الصغيرة المضطهدة. هذه الأخيرة تشمل الشغالين والعاطلين عن العمل والمهاجرين وكل من يقع تهميشه سياسياً أو اجتماعياً بوصفه كائناً من درجة ثانية. في هذا السياق يدعو أونفراي الأدباء والمبدعين من شتّى المجالات الفنية للاهتمام بموضوع البطالة وتكثيف الكتابة الأدبية حول مشاكل الهجرة.
ويمكن أن يكون النضال أفقياً ومتدرجاً وقائماً على شكل من أشكال التعاون المرن داخل كل فئة صغيرة مضطهدة وبين مجموع الفئات المتضرّرة. إنّ المقاومة بهذا المعنى، هي المراوحة بين الجهد الفردي المبذول والجهود الجماعيّة المتضافرة السّاعية إلى مواجهة الاستبداد. يقترح الفيلسوف أن يتصدى الفرد إلى كل أشكال التسلّط بدءاً بالتسلّط في معناه العائلي البسيط بين الرجل والمرأة مثلاً، مروراً بالتسلّط المُمارس في الشغل من قِبل رئيس العمل، وصولاً إلى التسلّط القائم على هيمنة المركز الناتج عن التفاوت الجهوي بين المدن الكبرى والأرياف. كما تجدر الإشارة إلى أنّ هذا التفاوت ينتج أيضاً عن التحيّل والزبائنيّة داخل المؤسسات المعرفية والتجارية والجبائيّة وغيرها. أمّا على المستوى الجماعي، فيكون التعاون بين "الفئات القاعدية" المهمشة كفيلاً بإعادة الاعتبار لها، حيث يرفعها التنسيق بين الجهود أطرافها من مستوى "فئات القاع البائسة" إلى القمّة، أي إلى مستوى قوّة ظاهرة ومؤثّرة.
يستعمل الفيلسوف الحقل الدلالي "للشيخوخة" في نقد أشكال الهيمنة القديمة المترسّخة في المجتمع والمسؤولة عن تدهوره وارتكاسه ويُحمّل الإعلام مسؤولية دعم الأفكار الرجعيّة عبر تقديم التوجهات السياسيّة ذاتها وتطعيمها بشيء من مظاهر التجديد. لكن تكمن الحكمة الحقيقية في الإيمان بالصيرورة الطبيعية للأشياء وفي قبول التغيير. أمّا ادعاء استشراف المستقبل من الطبقات السياسية البائدة، فلا يمكن أن يكون سوى ضرب من "التصابي"، يقول أونفراي في أحد حواراته الإذاعية على أمواج راديو أوروبا 1: "يقلب الإعلام الخصوصيات الفطرية للبشر وينشر التصابي داخل المجتمع، وها أنا أرى شيوخاً بملابس قصيرة وبأوشام عديدة على أجسامهم يلعبون ويتزحلقون بالتروتينات".
كورونا يغير التاريخ
أمّا اليوم وقد استهدف كورونا كل البشر في العالم، لا سيّما المسنّين منهم، فإننا نطرح أكثر من سؤال حول حقيقة الكارثة العالمية، لماذا يطيح الفيروس أساساً بطاعني السن الذين ينتمون إلى فئة المتقاعدين؟ وهي فئة تشكّل -في تقدير بعض خبراء الاقتصاد- مجموعة غير نشطة وتمثّل عبئاً على مؤسّسات الرعاية الاجتماعيّة والصحيّة وحتّى على المؤسسات الماليّة العالميّة.
ألا يدعونا ذلك إلى التفكير إنسانيّاً في مستحقات المسنين باعتبارهم جماعة مستهدفة من الطبيعة أو من الاقتصاد؟
فإن كان نقد الاتّجاه الفلسفي التحرّري للأجداد مسالماً وإصلاحيّاً بالأساس، فإنّ نقدهم في السياق الاقتصادي يرتبط بتبرّم مادّي بحت ونحن لا نقدّر عواقبه!
حيث تتراجع مدّخرات صناديق صرف المعاشات بصفة ملحوظة في بلدان عديدة في العالم كفرنسا وإسبانيا وإيطاليا، ويتفاقم العجز المالي فيها أكثر فأكثر، ويزداد تعقيداً في ظلّ واقع يتراجع فيه عدد الأيادي النشطة وتطول فيه أعمار المتقاعدين. تسعى فرنسا مثلاً منذ سنوات إلى تخطّي مشاكل صرف الجرايات (المعاشات) بإرساء تعديلات وإصلاحات على نظام التقاعد لكن دون جدوى. إذ قامت حشود شعبية بالتظاهر ضدّ التعديل الأخير الذي يدمج 42 نظاماً معمولاً به في التقاعد في نظام واحد جديد. اعتبر المتظاهرون هذا التحوير غير منصف، ومُخلّاً بمنظومة التضامن الاجتماعي، ودعوا إلى مراجعته، كما ندّدوا بمحاولات تمرير إجراءات تخدم النيوليبرالية ولا تكون في صالح المواطنين. وقد شاركت ضدّ هذا القرار الحكومي المتّخذ، أطراف نقابية وعمّالية -خاصة أصحاب السترات الصفراء والبرتقالية- ومتقاعدون وأحزاب من اليسار ومجموعات من اليمين الفوضوي ومثقفون، وشلّ هذا الحراك الاحتجاجي حركة النقل والمواصلات. وواصلت مجموعات من المتظاهرين احتجاجها حتى بعد ظهور كورونا. حيث رفع المحتجون يوم 03/03/2020 شعار"مع فيروس الكورونا فيروس تصل درجة حرارتنا إلى 49.3″ بمعنى أنّ الوباء العالمي لن يحط من عزائمهم، وأنّهم سيواصلون مظاهراتهم ضدّ الفصل 49.3 من القانون الفرنسي.
أمّا أونفراي، فيتواتر حضوره في الإعلام الفرنسي هذه الأيام ونراه ساخراً وغاضباً وناقداً لسياسة التعامل مع أزمة الفيروس. سيغيّر تفشّي هذا الوباء -في تقديره- معطيات جيوسياسية عديدة وسيسنّ قانوناً جديداً.. لذلك لا يستعمل الفيلسوف صوره المجازية المعتادة بل يُبدلها باستعارة مستجدّة هي استعارة "كورونا". يصرّح قائلاً في هذا الصدد: "لقد كنت، منذ البدء، على حق لمّا قلت إنّ الفيروس ليس مجرّد وباء طبيّ بل هو أيضاً استعارة. إذا أردت أن أعبر عن نفسي الآن كصحفي، وبالتالي كسياسي، والعكس بالعكس، سأقول: "البقية تأتي".
وبين قائل بتهاوي العولمة على إثر فقدان العالم السيطرة على كارثة كورونا وبين من يرى العولمة نفسها متحكّمة في حرب فيروسية جديدة، نتصوّر أنّ اتضاح الصورة يتطلّب مهلة زمنية موضوعية وواقعية لفهم المسبّبات والعواقب السياسية والاقتصاديّة المترتّبة عن وباء كورونا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]