من الكرة الشاملة إلى العنف الكامل.. لماذا اختارت هولندا المسار القبيح؟
"يقطع اتجاهين في آن واحد، يعود للخلف ويتقدم للأمام، يمضي في حلقات، وطرق ملتفة. وحين لا يقوّضه التاريخ، يصنع الأفخاخ لنفسه، مساره الضار يخلق داخله الشوق الخبيث للعودة".
وعلى لسان راوي رواية "ووترلاند" يكمل غراهام سويفت: يولد الحنين، هذا الطفل الوغد المدلل. نتوق للعودة للوقت قبل أن تسوء الأمور.
تلك رواية عن كل ما قيل سابقاً، حول التاريخ وطبيعة الوقت الدورية. في مرحلة ما يصبح تحليل النكسات محنة، خصوصاً عندما تتشابك عديد الأسباب معاً، وتبتعد كل منها عن منحناها المستقل. لا يفسح الحنين المجال للتفسيرات الملائمة لسبب عدم سير الأمور بشكل جيد، إلا عندما يلقي بظلاله على حقيقة ضرورة النظر للأمام والمضي قدماً، وليس العكس.
النكسة تلو النكسة
التاريخ: 13 يونيو/حزيران 2014. المكان، أرينا فونتي نوفا في مدينة سالفادور، البرازيلية.
المناسبة: أولى مباريات المجموعة الثانية في كأس العالم. هولندا تواجه المنتخب الإسباني، حامل اللقب. ولا يتوقع الكثير من جانب الطواحين، وصيف النسخة الماضية. عند المتفائلين التعادل هو أفضل الأحوال أو حتى تماسك الفريق ليظل متأخراً بفارق هدف وحيد.
قبل دقيقتين من نهاية الشوط الأول، أرسل داني بليند عرضية من منتصف الملعب، في المساحة خلف المتقدم سيرجيو راموس افترش فان بيرسي الهواء بعد سرقة لاعب ريال مدريد، ثم سكنت رأسيته مرمى كاسياس. الهدف منح أمل بإمكانية الفوز، انتهت المباراة بخماسية، ودعت إسبانيا البطولة من دور المجموعات، بينما تابع المنتخب الهولندي طريقه وحصد برونزية البطولة.
بعد عامين فقط فشلت هولندا من التأهل لليورو ثم تبع ذلك خيبة بتكرار فشل بلوغ نهائيات كأس العالم روسيا 2018. في السابق، شهدت كرة القدم الهولندية أربعة أجيال موهوبة من اللاعبين، مجموعة كرويف وويم فان هانغيم في السبعينيات، خوليت، ريكارد، فان باستن، وكومان في الثمانينيات، بيركامب في التسعينيات، ثم الجيل الأخير رفقة آريين روبن وويسلي شنايدر في الألفية.
انهارت الأمة التي غيرت تاريخ اللعبة الشعبية بأفكار الكرة الشاملة الثورية، تخلفت عن نظيراتها وآبت سوى الركض في مكانها، حيث توقف تدوين النجاح في الحاضر، اضمحلت رؤية المستقبل، وتبقى للكلمات نغمات الحنين لتأثير رينوس ميشيلز، وكيف طور الهولنديون في الماضي فلسفة أرشدت يد العالم لأسلوب جديد.
كان المنتخب الهولندي المرشح الأول لنيل مونديال 74. في الطريق للنهائي، أسقط كل من الأوروغوياي، الأرجنتين، والبرازيل حامل اللقب. لكن في 7 يوليو/تموز من ذلك العام، ضد ألمانيا الغربية، ضاع تقدمه بهدف، وانتهت المباراة بهدفين في مرماه. على التلفزيون الهولندي، علق هيرمان كويبهوف على هدف جيرد مولر بشكل غريزي قائلاً: "لقد خدعونا مرة أخرى.. الاحتلال النازي، عاد كل شيء".
ينظر ديفيد وينر، المتعصب للكرة الهولندية، في كتابه Brilliant Orange: The Neurotic Genius of Dutch Football للمباراة بأنها "ترمز إلى الموت المثالي لمُثل كرة القدم ونهاية نشوة الستينيات. كانت لحظة حاسمة لجيل وحقبة في المجتمع والسياسة الهولندية. بالنسبة لهولندا، شهد النهائي زوال أيقونات التفاؤل والطموح".
وبينما شعرت هولندا بصدمة الخسارة، رُحب بالفريق كأبطال عند عودتهم. يلاحظ وينر أن المجتمع حبس حزنه في صدره ولم يتم الحديث عن المباراة علانية لأكثر من عقد من الزمان. وفقاً للمحلل النفسي آنا إنكويست، لا يزال الهولنديون يعانون من "صدمة عميقة لم يتم حلها في عام 1974. إنه ألم حي، مثل جريمة بلا عقاب".
في يونيو/حزيران 1978 حكمت الأرجنتين من قبل المجلس العسكري الديكتاتوري. وبحلول نهائيات كأس العالم أخفت الطغمة العسكرية آلاف الأرجنتينيين في مراكز تعذيب سرية. حملت المباريات رسائل حداد راقصي التانغو، بالشرائط السوداء الملتصقة أسفل عوارض المرمى. إن لم تكن دقيق الملاحظة لترى ذلك، فالبتأكيد لن تغفل عن التواجد الكثيف للشرطة العسكرية المسلحة في النفق المؤدي للملعب حول المنتخب الهولندي.
فاز المنتخب الأرجنتيني واحتفل أمام أكثر من 71 ألف مشجع تواجدوا بالملعب، خلال مباراة شوهد المدرب سيزار لويس مينوتي، وهو يوجه لاعبيه المشوشين في المتاهة الأخلاقية قبل المباراة النهائية، حيث نصحهم بعدم الفوز من أجل المجلس العسكري، ولكن للعمال والجزارين والخبازين والسائقين الذين ملأوا الملعب.
من الكرة الشاملة إلى العنف الشامل
على كل حال، من أجل التأقلم النفسي مع هزيمتين متتاليتين، أصبحت كرة القدم الجمالية مثالية أفلاطونية في الثقافة الهولندية. سيزعم كرويف لاحقاً: "ليس هناك ميدالية أفضل من أن تتم الإشادة بأسلوبك".
أصبح من المقبول تقريباً خسارة الطواحين طالما حرك الهواء أطرافها بكرة قدم جميلة.
البلاد المنتجة للاعبين ممتازين لتطبيق أسلوب الضغط العالي، تبديل المراكز، وتبادل الكرة في مثلثات أنيقة تعكس الطبيعة الهجومية، بلغت ذروتها في الجمع بين البراعة والجمال بحصد أمم أوروبا على حساب الاتحاد السوفييتي في 1988، تعد تلك آخر لحظة رائعة حقاً للمنتخب البرتقالي.
في 2010، نجحت هولندا بقيادة بيرت فان مارفيك من بلوغ نهائي المونديال ضد إسبانيا، مباراة بالكاد زلت قدم آرين روبن سقط في غياهب الحزن بعد إضاعة فرصة الفوز. خسروا كالعادة، مع ذلك اختلف الطريق تماماً عن المواسم السابقة، بدلاً من الفن والمرح، لعب الفريق كرة منضبطة وبراغماتية ركزت على بلوغ الفوز بأي طريقة، قبل المباراة، قال لاعب خط الوسط مارك فان بوميل: "نحن بحاجة إلى منع الناس من الحديث عما حدث في عام 1974".
شهدت المباراة 14 بطاقة صفراء، طرد جون هيتينغا قبل نهاية الوقت الإضافي بفترة وجيزة. وقد يكفي ذلك لتكوين انطباع عن شكل المنتخب الهولندي في ذلك الوقت. عقب النهاية، أصدر يوهان كرويف حكمه: "اعتقدت أن بلدي لن يجرؤ ولن يتخلى عن أسلوبها… لكن اختارت هولندا مساراً قبيحاً للوصول إلى اللقب. هذا أسلوب قبيح، مبتذل، جامد، بالكاد يلفت الأنظار. لعبوا ضد كرة القدم".
اتهم آلان هانسن مراسل بي بي سي الفريق بتحويل الكرة الشاملة إلى عنف شامل، وعلقت صحيفة نيويورك بوست على ذلك بقولها: "لعبوا مباراة قذرة ساخرة ومبتذلة". وجاء تعقيب صحيفة تليجراف "هولندا، الدولة التي أعطتنا فن كرة القدم الشاملة، لجأت الليلة الماضية إلى هذا النوع من التكتيكات التي عادة ما تكون مخصصة لنزالات القتال. لم تكن هذه كرة قدم".
من الناحية التاريخية، يُنظر دائماً إلى الفرق الإيطالية على أنها دفاعية، وبنت ألمانيا سمعتها البراغماتية في الثمانينيات والتسعينيات. ولم يخفِ كره ذلك الأسلوب مشاعر تقديرهم. تلك الانتقادات لم توجه لأسلوب مارفيك بالتحديد، لكن تعلقت بأن تلك الكرة لا تناسب بأي حال من الأحوال الطواحين الهولندية.
تجد ثقافة البلاد، خاصة بالنسبة للأصوليين من سكانها صعوبة كبيرة في تقبل نهج الفريق الوصيف في 2010، وأسلوب لويس فان خال الدفاعي، المرتكز على التكتل وضرب الخصم بالهجمات المرتدة، الذي أوصلهم في النهاية للمركز الثالث في مونديال 2014. بعد ذلك، عاد جوس هيدينك ومعه النهج المبني على الاستحواذ، ولم يزعزع فشله وسقوط المنتخب المتكرر تلك النظرة.
من الناحية التكتيكية، اتسمت عصور فان مارفيك وفان خال بانعدام المخاطرة في المناطق الاستراتيجية من الملعب، حيث أصبح الفريق حذراً بطبيعته. قال روبن في 2018: "منذ حوالي 15 عاماً، جاءت دول أخرى إلى مطبخنا لترى كيف فعلنا ذلك. لكننا الآن بحاجة إلى أن نكون أكثر انفتاحاً وأن ننظر إلى الفرق والبلدان الأخرى للتعرف عليها وعلى تكتيكاتها".
هل بدأت رحلة العودة؟
تأخرت رحلة البحث عن روح المنتخب الهولندي المعاصر كثيراً، يملك الأدوات متمثلة في فان دايك، دي ليخت، دي يونغ، بيرجوين، ديباي، فينالدوم وغيرهم. رونالد كومان، المسؤول عن النظرة التقدمية في الفريق، كان جزءاً من الفريق الفائز بأمم أوروبا 1988، وبعد أن شهد الزوال البطيء للتأثير الهولندي عبر أوروبا منذ عام 2010، باستخلاص الدروس والخروج بالفائدة الفعلية، يمكن أن يعود معه يوماً رسالة: لقد عادت هولندا ومستعدة لبدء الكتابة مجدداً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
تقدر شركة إنتغرال ميديا الاستشارية المحدودة خصوصيتك وتعلم جيدًا كم هي مهمة لك وأنك تهتم بكيفية استخدام
بياناتك الشخصية.
نحترم ونقدّر خصوصية جميع من يزورون موقع عربي بوست، ولا نجمع أو نستخدم بياناتك الشخصية إلا على النحو الموضح في
سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط، ولأغراض تحسين المحتوى المقدم وتخصيصه بما يناسب كل زائر؛ بما يضمن تجربة
إيجابية في كل مرة تتصفح موقعنا.
تعتبر موافقتك على سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط أمرًا واقعًا بمجرد استمرار استخدامك موقعنا. يمكنكم
الموافقة على جميع أغراض ملفات الارتباط بالأسفل، وكذلك يمكنكم تخصيص الأغراض والبيانات التي يتم جمعها. يرجى
العلم بأنه حال تعطيل كافة الأغراض، قد تصبح بعض مزايا أو خصائص الموقع غير متاحة أو لا تعمل بشكل صحيح.
تخصيص الإعدادات
الإعلانات والتحليلات
التحليلات والاستهداف
قياس جودة المحتوى
اقترح تصحيحاً
من الكرة الشاملة إلى العنف الكامل.. لماذا اختارت هولندا المسار القبيح؟