ترددت وتتردد مزاعم انهيار الرأسمالية في العقود الأخيرة في خضم الأزمات المالية العالمية المتكررة. لكن ما يغفله كثيرون هو أن النظام الرأسمالي يجدد من آليات عمله وميكانزماته في أعقاب كل أزمة اقتصادية يمر بها. فالأزمة التي عصفت بالنظام الرأسمالي عام 1929 كانت من الأزمات التي لم يشهدها النظام من قبل، فلأول مرة في تاريخ النظام الرأسمالي يرتفع معدل البطالة إلى قرابة 25 ٪ من السكان في الولايات المتحدة الأمريكية، فضلاً عن هجرة مواطنين أمريكان إلى الاتحاد السوفييتي السابق، نظراً لصعوبة الحصول على طعام! كما تبخرت مدخرات المواطنين في البنوك والبورصة الأمريكية.
فما لبث أن خرج لنا عالم اقتصادي انتشل الاقتصاد الرأسمالي من محنته وهو اللورد الإنجليزي جون مينارد كينز، الذي أوصى بزيادة الإنفاق الحكومي والتركيز على السياسات المالية لإنقاذ الاقتصاد. و "السياسات الكينزية" كانت على العكس تماماً من وجهة نظر المدرسة الكلاسيكية والتي لم تعترف بإمكانية حدوث الكساد. وبالفعل نجحت الوصفة الكينزية في انتشال الاقتصاد العالمي من الكساد العظيم الذي استمر قرابة 10 سنوات حتى عام 1938. ثم ما لبث أن تأتي أزمات ركود تضرب الاقتصاد الرأسمالي من حين إلى آخر، وآخرها كانت الأزمة الاقتصادية العالمية في عامَي 2007 و2008 بسبب الإفراط في قروض الرهن العقاري والتي تسببت في ارتفاع معدل البطالة حتى تجاوزت 9٪ في عام 2008. وفى هذه الأزمة انهارت الأسواق المالية وأفلست العديد من الشركات والبنوك وازدادت حدة الكساد، ثم ما لبثت أن تدخلت الحكومة الأمريكية عن طريق السياسات المالية لضخ ما يقارب 700 مليار دولار لإنقاذ الاقتصاد من أزمته.
هل أحرق كورونا مراكب ترامب؟
مع وصوله إلى سُدة حكم الولايات المتحدة الأمريكية في عام 2016، أخذ ترامب على عاتقه مهمة تقليص النفوذ الاقتصادي الصيني، خاصة في العلاقات التجارية مع الولايات المتحدة الأمريكية وبدأ بفرض رسوم على الواردات من الحديد والألمونيوم حتى يستطيع أن يخضع الحكومة الصينية ويرغمها على مفاوضات تجارية من شأنها تخفيض العجز التجاري بين الولايات المتحدة والصين، حيث بلغ العجز في الميزان التجاري قرابة 350 مليار دولار لصالح الصين. مما دعا البنك الفيدرالي الأمريكي إلى خفض سعر الفائدة خشية دخول الاقتصاد في حالة من حالات الكساد.
ومع انتشار فيروس كورونا في أغلب دول العالم، كانت الولايات المتحدة الأمريكية في أزهى قوتها الاقتصادية فقد انخفض معدل البطالة إلى 3.5٪ وهو معدل لم يحدث منذ ستينيات القرن الماضي. هذا المعدل يعني أن الاقتصاد بلغ حالة التوظيف الكامل، أي أن الاقتصاد يستغل موارده أقصى استغلال ممكن. أما الآن فتشهد الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا انتشار وباء كورونا الذي سبب حالة من الهلع لم يسبق لها مثيل من قبل. وبدا كورونا وكأنه وحش كاسر يلتهم ثمار النمو الاقتصادي في العالم أجمع.
فهل أصبحنا على أعتاب مرحلة كساد عظيم أم انهيار للنظام الرأسمالي برمَّته؟! وهل ستخسر أمريكا الانتعاش الاقتصادي الذي حققته مؤخراً؟!
يرى أغلب الاقتصاديين أن الاقتصاد العالمي سيدخل في كساد إجباري بعد إلزام المواطنين بعديد من الدول بالمكوث في منازلهم، كإيطاليا والصين والولايات المتحدة وبريطانيا وإيران. مما خفض حجم الطلب على المستوى الكلي في كل دولة من هذه الدول وغيرها. الولايات المتحدة الأمريكية قد خسرت 3.5 مليون وظيفة على أقل تقدير خلال الأيام الفائتة، مع إعلان كثير من شركات الطيران والفنادق والمطاعم تسريح العديد من عمالها، بعض عمليات التسريح كانت اختيارية والبعض الآخر إجبارية.
حيث إن السياسات الاجتماعية والصحية التي تتخذها الدول في حربها ضد كورونا لها آثار واضحة على ربحية الشركات، سواء لانخفاض الطلب على منتجاتها أو بتقليل العرض. على سبيل المثال، أوقفت الولايات المتحدة الأمريكية الطيران من وإلى أوروبا، فضلاً عن انخفاض الطلب على السفر المحلي بشكل كبير، وكان من جراء ذلك أن هوت أسعار أسهم أغلب الشركات. شركة دلتا الأمريكية للطيران التي بلغ سعر سهمها قرابة 57 دولاراً في 20 فبراير/شباط الماضي، انخفض ثمنه إلى 20 دولاراً فقط ، وشركة هوليداي إن للفنادق خسر سهمها 50٪ من قيمته خلال نفس الفترة.
كما وقعت إيطاليا، تاسع أكبر منتج في العالم، في قبضة الكساد. وانخفضت الصادرات الصينية وبدأ انهيار البورصات العالمية إلى حد ما يذكرنا بما حدث في كساد 2008.
هل نشهد انهيار النظام الرأسمالي؟
أياً ما كان الأمر، فقد أصبح الاقتصاد الرأسمالي عرضة لكساد اقتصادي واسع هو الأكثر احتمالاً. لكن هل يعني ذلك انهيار النظام الرأسمالي؟
الإجابة الحتمية هي "لا"، خاصة إذا علمنا أن سبب تدهور الإنتاج هذه المرة ليس ناشئاً عن أسباب اقتصادية بل هو بالمقام الأول يعود لأسباب صحية خارجة عن هيكل النشاط الاقتصادي، مدفوعة من فيروس كورونا. ففي حالة اكتشاف مصل للوباء، سيعود الطلب والعرض الكليان إلى سابق عهدهما وسيتعافى الاقتصاد الرأسمالي سريعاً.
وستخفف الإجراءات والسياسات النقدية والمالية التي اتبعت من قِبل الحكومات وعلى رأسها حكومة الولايات المتحدة الأمريكية من حدة الكساد. فقد ضخ الرئيس الأمريكي قرابة تريليون دولار، ستُعطى كمنح من الحكومة لمن فقدوا وظائفهم. مع إعطاء كل مواطن أمريكي بالغ ألف دولار شهرياً، بالإضافة إلى منحة قدرها 50 مليار دولار لشركات الطيران والسفر التي تأثرت بالأزمة. كما خفض البنك الفيدرالي الأمريكي سعر الفائدة إلى الصفر فضلاً عن ضخ 700 مليار دولار في السوق المفتوحة حتى يزيد من حجم الطلب الكلي. ولم تقُم الحكومة حتى هذه اللحظة بامتلاك أي أسهم من الشركات الخاصة كما حدث من قبل في عام 2008.
وفى النهاية، فإن استغراق الاقتصاد الرأسمالي في الكساد مرهون باكتشاف علاج لهذا الوباء، فإذا اكتُشف دواء أو مُصل فسيتعافى البشر والاقتصاد معاً، ولربما ينجح الرئيس ترامب أيضاً في إعادة الحصول على مدة أخرى في البيت الأبيض.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]