فجأة حلّ الصمت. الكورنيش الواقع على الجهة الشمالية من البيت يفرغ من زماميره وزحمته، فيتصحّر. وأضيع أنا في الوقت، وأكتشف في هذا الضياع أن يومياتي السعيدة، قبل كورونا، كانت تنتظم على وقْع أصوات وصور: كنتُ أعلم، في تلك الأيام البعيدة، ومن دون أن أدرك، بالانطلاق إلى الشق الأول أو الثاني من النهار، عندما تنطلق الزمامير بعصبية، شمال منزلي.. أو أفهم أن شخصية ما سوف تعبر الكورنيش، عندما تعلو هذه الزمامير أكثر فأكثر، وتصبح منتظمة، فأطلّ من الشرفة لأتأكّد، وأرى تلك السيارات المتوتّرة محجوزةً من مخرج النفق وما بعد، بإرادة الجيش، بين عشر دقائق وربع الساعة، بانتظار أن يمرّ موكب "دولته" أو "فخامته"، أو أي من حاملي الألقاب المفخّمة هذه.
أو أستشعر بأن اليوم قد بدأ في الجامعة، عندما أسمع من الجهة الجنوبية لشقتي المشاجرات وهي تتعالى، حول أحقية الصفّة في ما يُعتبر "الباركينغ"؛ وقد انخرط فيها الأساتذة "الدكاترة" والموظفون، "الكبار"، والحَرس. وتلك الكلمة – اللازمة اللبنانية التي أصبحت الآن أثيرة "انت عارف حالَك مع مين عمْ تحكي؟" (انت هل تعلم مع من تتكلم؟)، وبصرخاتٍ ترتفع إليّ في الطابق السادس، وأنا أعود فأسعد بأنني لا أملك سيارة، معْفية من هذا النِقار اليومي.. وصخب الطلاب، ومناظر العشاق على شرفات مبنى الكلية، لا يستطيعون غير تبادل النظرات. وكنتُ أفكر قبل كورونا بأن هؤلاء المتغازلين يستحقون مكاناً أجمل من ذاك المبنى الرديء، الجاف، الذي يسمّونه جامعة. أقول لنفسي إنهما ربما يحلمان الآن بتلك الوقْفة المتواضعة. ثم نداءات البائع الجوال للكعك المحمّص بالجبنة في بداية النهار، ومن بعده كعك العصرونية في أواخره، وزمور دراجتيهما، الضعيف المؤنِس. وأفكر الآن بهما، كيف يكْسبون عيشهم وهم محبوسون؟ من أين يأتون بلقْمة عيشهم؟
دروة نهار بأكمله غابت عن السمع والنظر، فتحوَّل الوقت إلى كتلةٍ هلامية رخوة، بلا حدود ولا معالم. كل يوم من أيام العزل المنزلي، أستفيق على الصمت، وأحاول أن أنسى أن المدينة صارت مهجورة. وكلما انتقلَ شعاع الشمس من درجةٍ إلى أخرى، فدخلت ألوانه المألوفة إلى الغرف، أحتاج ثواني معدودة لأفهم أن اليوم ليس يوم أحد؛ أو أنني لستُ في صيدا، في بيت جدّي، قبل خمسين عاماً، عندما كنا نعدّ، أنا وإخوتي وأبناء عمي، السيارات التي تمرّ في جادّة رياض الصلح، التي تفصله عن منزلنا حدائق شاسعة مترامية؛ ولون السيارة، ونوعها، وأحياناً حمولات الشاحنات التي بدأت تتضخّم منذ وقتها، ربما.
ولا ينقص هذا الاستحضار سوى رائحة البحر الممْزوجة برائحة الياسمين، لكي تكتمل معالمه. ولكن لا. الرائحة الجديدة لا تحيلني إلى أيامٍ مضت. إنها رائحة جديدة، خالية من عوادم السيارات، ومن عوادم الطائرات التي تمرّ فوق رأسي، وتكاد تلامسه. توقف ذلك كله. الدنيا نظيفة الآن، إلا في ساعات قطْع الكهرباء، عندما تشتغل مولداته، فترتفع رائحة المازوت. ولكن هيهات.. أين ذاك المازوت، الصافي، من أيام كان يشترك فيها مع روائح العوادم والنفايات، بإرهاق أنوفنا من الكرائه؟
للعزلة المنزلية صوت ورائحة وصورة، ووقتٌ أيضاً، عليك تقسيمه، ضبطه، اختراع نوع من الروتين، وأنت محتجزٌ بين الحيطان. وإلا تصبح هائماً، باحثاً عن لا شيء.. مثل السجين الذي يكتب سطراً على جداره، كعلامةٍ لليوم الذي أتى، ويجمع كل سبعة مع بعضها من هذه الأيام، ليحدِّد الزمن الذي فلتَ من يديه.
وما يضيف إلى هذه العزلة وقوداً ذاك اللهاث خلف أخبار الأولاد والأحفاد والإخوة والأصدقاء. إنهم موزعون على أنحاء الأرض. وكنتُ أقول لنفسي، أيام العزّ، إن الوصول إليهم في زمن العوْلمة لا يحتاج إلى غير بطاقة سفر. الآن: هم في كندا والكويت وألمانيا والمغرب والسويد وجمهورية الدومينيكان وساحل العاج والولايات المتحدة وإنكلترا. صرتُ أعرف انتشار كورونا في تلك البلاد، وطريقة تصدّي حكوماتها له، وقدرتها على ذلك. قبل أن يبدأ النهار، أنظر إلى الخريطة العالمية، وأحصي الإصابات والضحايا. وبعدها اتصال، واطمئنان وقلق. قريبون، بعيدون. كأنهم معلقون في الهواء. كأنهم كائنات افتراضية.
أتكلم معهم عبر الفيديو، أريد دائما أن أتأكد من وجوههم، إنهم لا يخفون عني ضيقاً ما، أو عارضاً ما.. أو حتى قلقا عليّ. بصفتي أكبرهم عمراً، وأكثرني ترشّحاً للإصابة، بالتالي. وأنا لا أخشى كورونا نفسها؛ إنما بهْدلة المستشفيات التي قد أتعرّض لها، في حال وقعتُ على الأرض، حتى وأنا في الحجر المنزلي. فأزيد ساعات الرياضة المنزلية، أقوّي عضلات رجلي، كما نصحني المعالج الفيزيائي. ولا أحتاج إلى اتقاء الموبقات، وفشّ الخلق باللذائذ والطيّبات؛ بعدما مُنعتُ من تناول قرون الحرّ في أثناء الطعام؛ ففقدتُ شهيتي. وصرتُ آكل "عن واجب". ولاحظتُ، وأنا أشتري مكسّرات نيّة، لتقوية مناعتي، ثلاثة أكياس عارمة من البزورات الصغيرة، يكاد الواحد منها أن يزِن العشرة كيلو. سألتُ البائعة عن الإقبال على شراء هذا النوع من البزر بالذات، فأجابت بابتسامة عريضة، وبشيء من الرضا، إن هذا هو النوع الأكثر رواجاً الآن: "العالم بدها تتْسلى يا مدام".
الزهق. آه.. الزهق هو الأخطر، بعد كورونا. يختلف عن القلق، أو الهلع. ربما يأتي بعدهما. بعدما يستنفد الدماغ كل طاقته على الاستنفار. فيحلّ، وتحلّ معه الحقيقة الأسطع. أنك الآن مرغم على عزل نفسك. على البقاء في البيت. كل شيء يدعوك إلى ذلك. واليوم أُعلنت "حالة الطوارئ الصحية"، بعدما أعطى الحاكم بأمرنا إشارة الانطلاق بها. ومعها يتّضح حزنٌ من نوع جديد. حزن وتعَب وضجر. قد يكون فراغ المعنى أساس الضجر، ولكنه مقرونٌ الآن بالعجز عن الحركة، بضرورة الإتيان بأي معنى، ولو ضعيف، يستعيد الحياة المفقودة وسط هذا السديم الكوني. وقد يكون فراغ المعنى بتعطّل الخيال، أيضاً. بالعجز عن ولوج عوالم أخرى، مبْهجة، تعوّض عن تلك البشاعة الغائمة. حزنٌ وضجر، وجدتُ لهما قليلاً من العلاج: الأفلام العربية، بالأسود والأبيض، على التلفزيون. ثلاثة أقنية تبثّها. أشغّلها طوال النهار، وأنصرّف معها إلى اهتماماتي. ماذا في تلك الأفلام؟ اسألُ نفسي. فلا أجد غير الحنان. تلك الأفلام تبثُّ حناناً: ربما، ببراءة سيناريوهاتها، بسذاجة شرورها، ببيوتها الواسعة، بعمارتها الأنيقة، بشوارعها الرحبة، بوجوه أبطالها المألوفة، شَبَه أمي وأبي، بممثليها "الثانويين" اللامعين، أولئك الذين لم يحظوا بالنجومية، بإيمان كتّابها بأن الغد سيكون حتماً أفضل من اليوم.
ولكنني أخرق الحظر، وأخرج أحياناً؛ من دون كمّامة، فلا وجود لها في الصيدليات. أضع المنديل على وجهي والكفوف البلاستيكية، وأخرج لشراء الخبز أو المكسّرات، وكأنني ذاهبة إلى المقهى… بكامل أناقتي، وبالكحْلة والماسكارا على عينيّ ورموشي. بالأمس، لبّيتُ نداء الجنون وخرجتُ مع أصدقائي إلى شاطئ البحر، على كورنيش المنارة. الرذاذ، رائحة اليود، الوجوه الفضولية، بائعو العرانيس والفول الأخضر، الغروب… كل ما حولنا لا يوحي إلا بالبحث عن حبٍّ ما، عن حزن مختلف، عن وقت آخر.. يوم كنا نأكل القتْلة على يد شبيحة السلطة في تظاهراتنا، أو عندما كنا نقف مذلولين أمام حرَمية المصارف.. رزق الله.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.