عانت كل دولة في العالم كي تتقبل واقع وجود وباء مميت. فكان أول رد فعل من المرشد الأعلى الإيراني، آية الله علي خامنئي، هو وصف فيروس كورونا بأنَّه "مرضٌ سخيف" يستخدمه أعداء إيران كذريعة لتثبيط همة الشعب عن التصويت في الانتخابات البرلمانية.
لكنَّه أوصى بعد يومين بالدعاء لمواجهة المرض.
وكان أول رد فعل من مصر هو إرسال وزيرة الصحة، هالة زايد، إلى الصين تضامناً مع بكين. وقالت زايد: "لولا الإجراءات الاحترازية القوية جداً التي اتخذتها الحكومة الصينية، لكان الوضع الوبائي في العالم اختلف بشكل كبير".
في ذلك الوقت –الأول من مارس/آذار- كانت الحالة الوحيدة المُعلَنة في مصر هي لمواطن صيني اكتُشِفَت إصابته بالعدوى عند وصوله إلى مطار القاهرة. وخرج، أو خرجت، هذا الشخص الصيني من المستشفى في أواخر فبراير/شباط الماضي. وأضاء العلم الصيني أهرامات الجيزة وأبو الهول احتفاءً بحلول العام الصيني الجديد.
لكنَّ المشكلة كانت تختمر.
"عبء كبير"
إذ أظهر 97 أجنبياً على الأقل ممَن زاروا مصر منذ منتصف فبراير/شباط الماضي أعراض الإصابة بالفيروس أو جاء اختبار الكشف عن الفيروس لديهم إيجابياً. وكان خبراء بالأمراض المُعدية بجامعة تورونتو الكندية –يوجد لدى كندا جالية مصرية كبيرة- متشككين بشأن التفاوت بين معدلات الإصابة الرسمية والمحتملة بالعدوى في مصر.
وقالوا: "في ظل تقديرٍ معتدل لعبء مرض فيروس كورونا 2019 (COVID-2019)، وبعد استبعاد الحالات المرتبطة والمبهمة، نُقدِّر وجود تفشٍّ حجمه 19310 حالة في مصر"، واستخدم الخبراء في ذلك مزيجاً من بيانات السفر، وبيانات المسافرين، ومعدلات العدوى. وأضافوا: "يُرجَّح أنَّ مصر لديها عبء كبير من حالات مرض فيروس كورونا 2019 غير المُبلَّغ عنها، ووجود قدرة سريرية أكبر للصحة العامة قد يساعد في تحديد الحالات والتعامل معها".
وحين نشرت روث مايكلسون، مراسلة صحيفة The Guardian البريطانية في القاهرة، هذا التقرير وغرَّد ديكلان والش، الصحفي السابق في صحيفة The Guardian البريطانية ومدير مكتب صحيفة The New York Times الأمريكية الحالي في القاهرة، عن الدراسة الكندية -قبل أن يحذفها لاحقاً- أعلنت السلطات المصرية إلغاء التصريح الصحفي لمايكلسون. واتهمتها بـ "تكرار الإساءة المتعمَّدة"، واتهمت والش بارتكاب "تجاوزات مهنية"، ولو أنَّ الصحيفة الأمريكية لم تتعرَّض لأي عقوبات حتى الآن.
وطالبت الهيئة العامة للاستعلامات في مصر صحيفة The Guardian بنشر اعتذار. وفي غضون ذلك، لم تعترف وزارة الصحة إلا بوجود 166 حالة إصابة و4 حالات وفاة بفيروس كورونا.
الموضوع المحظور
حدث الأسوأ للمواطنين المصريين الذين كشفوا عن الانتشار الحقيقي للفيروس. إذ ألقت قوات الأمن السبت الماضي، 14 مارس/آذار القبض على شخصين اتُّهِما بنشر شائعات عن الفيروس، ما أوصل الرقم الإجمالي للمقبوض عليهم بتلك التهمة إلى 7. وفي اليوم السابق على ذلك، أعلنت وزارة الداخلية القبض على شخصين آخرين زعمت أنَّهما عضوان بجماعة الإخوان المسلمين.
ووفقاً لمجموعة Egyptwatch الحقوقية المعنية بمصر، اتهمت السلطات الشخصين بنشر شائعات كاذبة ومفبركة، وأنَّهما "نشرا إدعاءات على غير الحقيقة عن انتشار فيروس كورونا بشكل واسع في مصر، وعدم قدرة الدولة على مواجهته"، إصافة إلى "التهكم على الإجراءات التي تتخذها الدولة بشأن مجابهة هذا الفيروس، بهدف إثارة الرأي العام".
امتدت نفس المعاملة –في البداية على الأقل- إلى أولئك الذين أصيبوا بالفيروس. فكان يمكنهم المعاناة في صمت، طالما لم يقولوا إنَّهم مصابون بالفيروس. وجذب أحد هؤلاء أنظار السلطات المحلية على الفور حين ذهب إلى المستشفى بإحدى مدن دلتا النيل. وقد هددته السلطات بمعاقبة أسرته إن أعلن إصابته بالفيروس.
لكنَّ الفيروس آخذٌ بالانتشار في مصر، سواء نفت السلطات ذلك أم لا.
إنكار وخوف
أدَّى تفشي الفيروس على متن الباخرة النيلية "إيه-سارة"، التي جاءت اختبارات 44 من أفراد طاقمها والمسافرين على متنها إيجابية، إلى مشاهد فوضوية في الأقصر. إذ انتقلت الفرق الطبية من محافظتي القاهرة وقنا إلى ردهات ومطاعم الفنادق والبواخر في المنطقة لإجراء اختبارات عشوائية في صفوف العاملين والنزلاء.
اختار مُلّاك الفنادق العينة بصورة عشوائية في إحدى الحالات. وقال مايكل، وهو سائح بريطاني من مدينة مانشستر، لموقع Middle East Eye البريطاني: "استيقظنا لنجد رجال شرطة مسلحين يرتدون ملابس مدنية يغلقون أبواب الفندق ويخبروننا بأنَّنا لا يمكننا المغادرة إلى حين اختبار الجميع. ظننا في البداية أنَّ هناك أشخاص جاءت نتائج اختباراتهم إيجابية، لكنَّ الإدارة لاحقاً اختارت بعض النزلاء المصريين وأقنعتهم بالذهاب وإجراء الاختبارات". وغادرت الفرق الطبية بعد أربع ساعات.
وسبب هذا الخوف والإنكار والإجراءات الشكلية واضح: صناعة السياحة المصرية، التي بلغت عائداتها 12.57 مليار دولار العام الماضي، وتوقفت مرة بعد الانتفاضة الشعبية في 25 يناير/كانون الثاني 2011 ثُمَّ مجدداً في 2015 بعد سقوط طائرة ركاب روسية بواسطة قنبلة. خشي الجميع، بدءاً من العمال المحليين وصعوداً إلى أعلى المستويات، من تكرار الأمر. وهو بالطبع ما حدث الآن بالضبط. إذ توقفت الرحلات النيلية، وتوقفت كذلك كل حركة السياح الأجانب.
الحقيقة هي أنَّ قطاع الخدمات الصحية في مصر كان في حالة انهيار قبل تفشي الفيروس، وكذلك كان الحال بالنسبة للخدمات العامة الأخرى.
خدمة صحية تنهار
أبلغني مصدر مطلع في أوساط المجتمع الطبي العربي في بريطانيا أنَّ هيئة الخدمات الصحية الوطنية في بريطانيا أشارت العام الماضي إلى وجود زيادة في عدد الأطباء القادمين من مصر، وبدأت الهيئة تبحث إمكانية اجتذاب المزيد منهم.
وكان معروفاً في الأوساط المهنية أنَّ الخبراء الطبيين المصريين داخل مصر يقضون معظم وقتهم في العمل بالمستشفيات الخاصة ولا يذهبون إلى أعمالهم الرسمية طيلة شهور متتالية. كان واضحاً أنَّ الخدمات الصحية المصرية تنهار.
كان ظهور الفيروس يعني انتشار الفوضى على المستوى المحلي. فقال كريم الشمس، وهو طبيب بمستشفى الأقصر العام: "لم يتلقَّ أي فرد في الطاقم العامل بالمستشفى، بمن فيهم أنا، تدريباً للتعامل مع حالة مٌصابة بالكورونا. ليس لدينا معدات ملائمة للعمليات والجراحات البسيطة، ناهيك عن فيروس مميت ومُعد للغاية. أحياناً تجيئنا العشرات من الحالات لأناسٍ يشكون من أعراض البرد، فنصف لهم المضادات الحيوية أو أدوية الإنفلونزا ونتركهم يعودون للمنزل. وقد بُني استقبال الطوارئ لدينا ليستوعب 100 شخص، لكنَّ أكثر من 300 شخص ينتظرون بداخله".
يمكن قول الشيء نفسه عن نظام السجون المصري. فهو –بشكل متعمَّد إلى حدٍ كبير- يعاني الاكتظاظ، ومليء بالأمراض، ويُمثِّل مهلكة. واستُخدِمَت الظروف المريعة داخله كوسيلة لإرهاب المعارضة السياسية المناوئة للحكام العسكريين في مصر.
فذكر تقرير للمجلس القومي لحقوق الإنسان في مايو/أيار 2015 إلى أنَّ نسبة التكدس في أقسام الشرطة تبلغ 300%، وتبلغ في السجون 160%. وهناك ما بين 40 إلى 60 ألف سجين سياسي في مصر حالياً. وهناك أدلة كثيرة على أنَّ السجناء الذين يعانون من عوارض صحية يُتركون للموت، أو لا يُعالَجون بالشكل الكافي، أو يُحرمون من الأدوية التي يحتاجونها، والسبب الأساسي في ذلك هو أنَّ تلك هي رغبة الرئيس عبدالفتاح السيسي.
وفي ما يتعلق بفيروس كورونا، فإنَّ نظام السجون المصري بيئة ملائمة لانتشار الفيروس. فكما كتب عمرو مجدي، الباحث المختص في الشؤون المصرية لدى منظمة هيومن رايتس ووتش: "إن كان من نصيحة يمكن لسجين في مصر أن يُقدِّمها لسجين آخر جديد، فعلى الأرجح ستكون: (لا تمرض)".
فالأصل هناك هي الرعاية الطبية الهزيلة، وهذا يهدد آلاف السجناء المرضى. وتُظهِر تقارير سابقة لمنظمة هيومن رايتس ووتش أنَّ مسؤولي السجن "تركوا" الكثير من السجناء في السنوات الأخيرة يموتون، حتى بالرغم من من وجود إمكانية للتعامل مع أمراضهم، مثل السكري أو أمراض القلب.
السيسي المنقذ
بعد أشهر من الإنكار، أغلق الرئيس السيسي المدارس والجامعات لأسبوعين، وأعلن تخصيص 100 مليار جنيه (6.4 مليار دولار) لتمويل استراتيجية مكافحة الفيروس. المشكلة -كالعادة- بالطبع هي أنَّ الجزء الأكبر من تلك الأموال سيذهب للجيش. ولا تتم أي عملية إنفاق للأموال العامة في البلاد إلا ويطالب الجيش فيها بحصة الأسد. إنَّ الشعب في خدمة الجيش، وليس العكس.
لم يتغير كل شيء يوم السبت الماضي. فلا يزال الاحتجاج جريمة يُعاقَب عليها بالاعتقال والسجن. فكانت الروائية المصرية البريطانية أهداف سويف واحدة من بين أربعة أشخاص أُلقي القبض عليهم لاحتجاجهم بشأن الفيروس الأربعاء الماضي 18 مارس/آذار. ضع كل هذه الأجزاء بجانب بعضها وستجد كارثةً تتكشَّف بصمتٍ في أكبر البلدان العربية والمتوسطية سكاناً.
وتغض أوروبا والولايات المتحدة الطرف منذ سيطر السيسي على السلطة. ومن المعروف أنَّ جون كيري، وزير خارجية الرئيس الأمريكي باراك أوباما، صاح في مساعديه حين حثّوه على المطالبة بحصول اللجنة الدولية للصليب الأحمر على حق الوصول إلى السجون المصرية. فقال كيري، وزير خارجية أكبر دولة مانحة لمصر، لمساعديه: "أعطوني سياسة لن يصيح السيسي عليّ بسببها".
ينصاع السيسي تحت الضغط الدولي. المشكلة هي أنَّه لا يوجد أي ضغط عليه.
فيوم الأربعاء الماضي، دعا تحالف من المجموعات الحقوقية والنشطاء والسياسيين وأعضاء المجتمع المدني الأمم المتحدة لمطالبة مصر بالإفراج عن سجنائها السياسيين في ظل تفشي جائحة كورونا فيروس العالمية. وبحلول الوقت الذي تخرج فيه مطالبة جدية له بإطلاق سراح السجناء والسماح للصليب الأحمر بالحصول على حق الوصول لكل السجون المصرية بلا قيد، قد يكون الأوان فات.
وعلى الأرجح أنَّ الأوان قد فات بالفعل.
وينبغي فعلاً على المجتمع الدولي –إن كان لا يزال هذا المصطلح موجوداً- التفكير في ما يحدث بمصر في اليوم التالي لاجتياز مشكلة الفيروس.
إذ سيتعرَّض الاقتصاد للتدمير. وستُسحَق السياحة، التي تراجعت بالفعل إلى 10% من طاقتها. وسيتعرَّض الاقتصاد العالمي للضعف، ومن ثَمَّ يتهدد المصدر الرئيسي الآخر للعملة الصعبة في مصر: قناة السويس. وثالثاً، سيتعرَّض الاقتصاد الخليجي للضعف. ومصر تملك مليوني عامل في السعودية وحدها.
ربما حينها فقط ستعض أوروبا والولايات المتحدة أصابعها ندماً على اليوم الذي سمحتا فيه لحاكم مصر العسكري الأكثر تدميراً بالحصول على تذكرة مرور مجانية.
– هذا الموضوع مترجم عن موقع Middle East Eye البريطاني.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.