أكثر من 5 ملايين مغربي بالخارج.. هل يضرب كورونا علاقة المغاربيين بأوروبا؟

عدد القراءات
10,161
عربي بوست
تم النشر: 2020/03/20 الساعة 12:13 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/03/24 الساعة 16:40 بتوقيت غرينتش
فيروس كورونا

فيما تتالت قرارات غلق الحدود، وشلت الحياة في أكثر من مكان ووضع ملايين البشر قيد الحجر الصحي، واصلت الطائرات وإلى ساعات قريبة تحليقها في سماء روما وباريس، ناقلة أعداداً من التونسيين إلى بلادهم. وبدا واضحاً أن الرسميين في تونس وبدرجة أقل في المغرب والجزائر، لم يكونوا مرتاحين جداً إلى غلق مجالهم الجوي أمام الأوروبيين، رغم التحذيرات والدعوات المستمرة التي وجهت لهم بضرورة الإقدام على ذلك، تحوطاً من فيروس كورونا.

ولكنّ للأزمة وجهاً آخر، فالمغاربة، على سبيل المثال، لم يكونوا بحاجة إلى خبير لغوي يشرح لهم مدلول العبارة التي استخدمها الرئيس الفرنسي في تغريدته، التي قال فيها قبل أيام: "أطلب من السلطات المغربية التأكد من القيام بكل ما هو ضروري في أقرب وقت ممكن"، لأن الصيغة كانت أفصح من كل شيء، فهي لم تدع مجالاً للشك في أن ساكن الإليزيه، لم يكن مدركاً أو مقتنعاً بأن هناك فرقاً بين مخاطبة دولة مستقلة بشأن إجلاء الرعايا الفرنسيين منها والحديث إلى مقاطعة من مقاطعاته في ما وراء البحار حول الأمر نفسه. ولكن هل كان مثل ذلك الخطاب غريباً بالفعل؟ أم أنه كان فقط فرصة إضافية لاستكشاف واقع يتعدى علاقة المغرب بفرنسا، ليشمل علاقاتها بباقي الدول المغاربية بلا استثناء؟ إن الآلام والأحزان التي خلفها كورونا على امتداد العالم بأسره، بما فيه المنطقة المغاربية، قد تكون حجبت خدمة جليلة قدمها للمغاربيين، حين فتح أبصار كثير منهم على الخلل العضوي في علاقتهم بالضفة المقابلة.

وما جرى هنا هو أنه ومن بعد ما استهانوا بالوباء الكوني، وسخروا منه، وعبروا عن استخفافهم بقدرته على الوصول لهم، صاروا الآن ومع تواتر الإعلانات في الدول المغاربية كافة عن إجراءات وقرارات حكومية لتطويقه، والحد من انتشاره، يراجعون مواقفهم ويزدادون اقتناعاً واعتقاداً بأن الفيروس القاتل لم يكن أبداً مزحة ثقيلة أو كذبة أو حتى شأناً خارجياً لا يعينهم من قريب، أو من بعيد، مثلما توقع البعض منهم من قبل. لقد بات الجميع مجبراً كما هو الشأن في كل أرجاء الكوكب، أمام ما تكشف من حقائق ووقائع عن قدرته العجيبة على التنقل والانتشار السريع في مختلف الأوساط واختراق كل الحواجز والحدود، على أن يتخلى عن كثير من عاداته وتصرفاته وسلوكياته اليومية، ويتصرف بحذر شديد، وربما حتى بهوس واحتراس مبالغ.

ورغم أن لا أحد في تونس أو المغرب أو حتى موريتانيا، وهي الدول المغاربية الأكثر استقبالاً للسياح الأوروبيين، صرح علناً بأنه لم يعد هناك مكان في تلك الدول للفرنسيين والإيطاليين والإسبان، وهم الجيران الذين تفشى فيهم الوباء بشكل كبير، فإن مثل تلك الدعوات الغريبة التي لم يكن أحد ـ أسابيع قليلة إلى الوراء ـ يتصور أو يتخيل يوماً أن تصدر من تلك البلدان بالذات، صارت تتداول على نطاق شعبي واسع. فما فعله كورونا فاق التصور والخيال.

فمن كان بوسعه أن يظن أو حتى يخطر بباله انه سيأتي اليوم الذي يغلق فيه المغرب أجواءه بوجه الأوروبيين بالذات، وتأخذ فيه تونس قراراً محتشماً بغلق مجالها البحري والجوي، ولو بشكل محدود، أمام الفرنسيين، وتعلن فيه الجزائر لاحقاً أيضاً غلق مجالها الجوي بوجه الجميع؟ إن ذلك في حد ذاته انقلاب. ومع أن عدد الضحايا المعلن عنهم حتى الآن في المنطقة المغاربية يظل محدوداً مقارنة بمناطق أخرى في العالم، فقد استمر الفيروس في بث حالة من الخوف والذعر وإرباك الأسواق وتعطيل الأعمال، والكشف عن فئات اختارت المضاربة والتمعش في الأزمة، أو إظهار قدر مفرط من حب الذات، عملاً بالمقولة الشهيرة "أنا ومن بعدي الطوفان".

لكن السؤال الذي فرض نفسه في المغرب الكبير في خضم ذلك هو، فيما إذا كانت المحنة الصحية العالمية ستكون بالفعل فرصة لقلب العلاقة التقليدية المختلة بين المغاربيين والأوروبيين رأساً على عقب وتصحيحها وتعديلها؟ وربما حمد كثير من التونسيين والجزائريين والمغاربة الله، على أن الوباء لم يظهر أولاً في دولهم، بل جاءهم وافداً من أرض طالما وصفت بأرض الحضارة، ولعلهم استحضروا أيضاً ذلك السؤال العنصري الذي طرحه أحد الإيطاليين على مذيعة في إحدى القنوات التلفزيونية المحلية، في سياق الحديث عن كورونا لما استفسرها عن سر عدم إصابة المغاربة والجزائريين المقيمين في إيطاليا بالوباء، واستغربوا كيف أن المحنة والشدة غذت العنصرية وقوتها على الطرف الشمالي من المتوسط، بدلاً من أن تخمدها في هذا الظرف على الأقل.

ولكن ألن يكون ذلك كله مفيداً للمغاربيين في دفعهم نحو تغيير بوصلتهم وتوجيهها قليلاً خارج القارة العجوز؟ ثم ألن يجبرهم على المدى الطويل ربما، على التعويل على أنفسهم بدل الاطمئنان إلى دعم وصداقة الأوروبيين الوهمية لهم؟ ربما سيكون من الصعب أن يظلوا بعد مرور الأزمة وجلائها على الحال الذي كانوا عليه قبل ظهورها. فمثلما سيجبر الحرفي البسيط في تونس، وسائق التاكسي في مراكش، والبدوي في إدرار الموريتانية، وكثير ممن كانوا يتعاملون بشكل واسع مع الزوار والوافدين الأوروبيين على أن يجدوا بدائل أخرى لتحصيل أرزاقهم، لن يكون بوسع الحكومات، وقد رأت عجز الجيران الشماليين عن مد يد المساعدة لها في محنة الوباء، أن تقف مكتوفة الأيدي منتظرة إغاثة ونجدة لن تصلها، على الأقل وقت الحاجة، فهي ستضطر حتما إلى التعويل على قدراتها الذاتية، حتى إن كانت بسيطة أو قليلة أو محدودة، وقد تلجأ أيضاً إلى البحث عن فرص أخرى خارج محيطها التقليدي. لكن كم سيكون صعباً على الأنظمة المغاربية أن تتخلص وبشكل كامل ونهائي من الدوران في الفلك الأوروبي، أو تخرج بالكامل عن طوع أوروبا وسيطرتها، وتفك الارتباط الظالم وغير المتكافئ بين اقتصاداتها واقتصاد القارة.

ومع ذلك فسيكون مهماً أن تكون الأزمة الصحية الكونية، قد نجحت، ولو نسبياً، في كسر الحاجز النفسي القديم بين الضفتين، وكشفت للمغاربيين مدى ابتعادهم وعزلتهم عما كان البعض منهم يتوّهم، إنها امتداده الطبيعي والاستراتيجي الدائم. فحتى لو انتقل الوباء من أوروبا إلى المغرب الكبير، ولم يحصل العكس فإنه لم يكن هناك بد من ظهور الشرخ بين الطرفين لسبب أو لآخر.

ومع أن هناك مَن قد ينتصب للقول إن في ذلك قدراً من الشطط المبالغ، وإن حليمة ستعود حتماً إلى عادتها القديمة، ولن يتغير شيء بعد جلاء كورونا، إلا أنه سيكون من غير المتوقع أيضاً أن تراوح العلاقة مكانها القديم. غير أن المغاربيين سيكونون مطالبين بتغيير أنفسهم، قبل تعديل علاقاتهم. فمثلما فرض عليهم الفيروس سلوكيات غير مألوفة فسيكون عليهم الآن أن يدركوا أن اهتزاز صورة أوروبا في أعينهم، يجعلهم مجبرين على انتهاج سياسات وخيارات وخطط بديلة للمستقبل. فهل يملكون الجرأة والإرادة لفعل ذلك؟ هذا ما نأمله منهم على أي حال.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

نزار بولحية
كاتب تونسي
كاتب تونسي
تحميل المزيد