ليس تقليلا ولا تهوينا من فيروس "كورونا" الذي صنفته منظمة الصحة العالمية، وباء عالميا، واستنفرت كل دول
العالم ضده، ولكنها نظرة أحاول فيها على قدر استطاعتي أن أكون موضوعية تجاه هذا الفيروس الذي تم العمل على التضخيم والتهويل فيه منذ الإعلان عنه، بشكل مبالغ فيه للدرجة التي اتخذها رواد شبكات التواصل الاجتماعي سخريا ومادة خصبة للنكات و"القفشات"، والبعض اعتبره مؤامرة من أمريكا وأنه يأتي في إطار الحروب البيولوجية التي أعلن عنها في نهايات القرن المنصرم، تشنها أمريكا ضد الصين، أكبر منافس اقتصاد لها في العالم لتحد من نموها وتعرقل اقتصادها، على الرغم من أن الرئيس الأمريكي "ترامب"، أعلن حالة الطوارئ في بلاده ورصد 50 مليار دولار لمواجهة الأزمة، وطلب العون والحماية من الرب في تغريدة له، كما دعا الأحد الماضي للصلاة!
بل ذهب آخرون في خيالهم الخصب بعيدا، واعتبروه من صنيعة الصين ذاتها، مصدر الوباء، وأنه صُنع على أعينها وبأيديها للتخلص من المستثمرين الأجانب، دعما لاقتصادها الذي سيتجاوز الاقتصاد الأمريكي بهذه الاستراتيجية السياسية العالية، وأنه من خلال هذا التكتيك في خداع الجميع، وتحت بند "عقيدة الصدمة" اضطر المستثمرون الأجانب لبيع أسهمهم في شركات تكنولوجية ذات القيمة المضافة العالية، بأثمان زهيدة للحكومة الصينية، وحصدت الصين حوالي 20 مليار دولار خلال يومين، وبذلك يكون الرئيس الصيني قد نجح على مرأى العالم كله، بهذه اللعبة الاقتصادية ذات الطابع التكتيكي التي لم ترد ببال أحد! ويدللون على ذلك بأن الصين أعلنت عن احتواء الفيروس، وأنها تقترب من القضاء عليه! إذن فهي قد أنتجت دواءه ووضعته في الثلاجة قبل أن تطلق الفيروس للعالم!
ومما يناقض هذا الطرح ما جاء على لسان المتحدث باسم الخارجية الصينية الذي اتهم صراحة الجيش الأمريكي هو من جاء بفيروس "كورونا" الجديد إلى منطقة "ووهان".
لم يأت أحد بأدلة قاطعة تؤيد ما طرحه، بل من خلال أفلام وفيديوهات سابقة، تتنبأ بهذا الحدث المرعب عام 2020، ولعل أشهرها على الإطلاق من حيث تداولها على منصات الإعلام الرسمي والإعلام البديل بشكل مكثف، رواية كتبها "دين كونتر" بعنوان "عيون الظلام" صدرت عام 1981، يتنبأ فيها بفيروس "كورونا" وبمكان انطلاقه في مدينة (ووهان) الصينية وبموعده عام 2020. وتقوم الرواية على أساس أن الفيروس منتج بشري ضمن حروب جرثومية تشنها الصين على الولايات المتحدة، بينما نشر 27 عالما من أشهر العلماء في البيولوجيا وينتمون لتسع دول ليست من بينها الصين؛ بيانا مؤخرا في أهم مجلة طبية في العالم (Lancet) أكدوا فيه أن مصدر فيروس "كورونا" هو البرية، وأن مصدره مشابه لمصدر "سارس" الذي ظهر عام 2003، وهو ما يناقض خيال مؤلف الرواية، ولكن يبدو أن البشر عموما وليس العرب فقط يميلون إلى الخيال والأساطير، رغم ما أوتوا من علم..
ونحن لا نعرف مَن يروج لمثل هذه الطروحات التي ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في ترويجها بشكل كبير، مما زاد من حالة الجدل والرعب بين الناس، ولا ندرى ما الغرض من هذه البلبلة التي أراها متعمدة لتضيع الحقيقة بين ثناياها!
والبعض تطرف بعيدا ونظر إلى الأزمة من منظور إسلامي بحت، وأتى بأحاديث نبوية منذ أكثر من1400 عام؛ تذكر هذا الفيروس الذي تم ربطه بنهاية العالم، واعتباره انتقاما إلهيا من الصين بسبب مجازرها الوحشية ضد مسلمي الإيجور، وهاهم الصينيون محتجزون داخل معسكرات منعزلة كما فعلوا وأجرموا في حق بالمسلمين، لكن نسي من يرجون لهذا أو تناسوا أن المسلمين أيضا ليسوا بمنأى عن هذا الفيروس إذا تفشى!
بل بلغ الهطل بوزير الأوقاف المصري أن قال إن الإخوان المسلمين يدعون لانتشار الفيروس في العالم!
وبعيدا عن كل هذه التكهنات والتحليلات، بل لنقل بعيدا عن هذه الخزعبلات، فإن عدد المصابين بفيروس "كورونا" في العالم حتى الآن يعتبر قليلا جدا ويكاد لا يذكر، بمقارنته بالأوبئة الأخرى مثل الطاعون والكوليرا التي اجتاحت العالم في القرن الماضي وحصدت الملايين من الأرواح، بل وبمقارنته بما هو أقل؛ مثل "الإنفلونزا" العادية، التي لا يسلم منها أحد خاصة في فصل الشتاء. فنجد أن المصابين بكورونا لا يتجاوز عددهم بضعة آلاف مقارنة بعدد سكان العالم الذي يبلغ 7.7 مليار نسمة، وحوالي 97 في المئة ممن يصابون به يشفون منه تماما، بينما 3 في المئة فقط يموتون بعد الإصابة به، وهذا يرجع غالبا لكونهم من كبار السن وضعف المناعة لديهم أو من المصابين بأمراض أخرى، بينما عدد المصابين بالإنفلونزا العادية والموتى منها سنويا في العالم أضعاف مضاعفة.
بغض النظر عما إذا كان الفيروس طبيعيا أو كان مُخلقا في المعامل الأمريكية وتم حقن الخفافيش الصينية به، كما يروج مؤيدو نظرية المؤامرة، فإن الفيروس في حد ذاته ضعيف وينتشر أساسا في الأماكن المزدحمة، أو المغلقة وغالبا لا يؤثر إلا في ذوي المناعة الضعيفة. والوقاية منه سهلة وبسيطة، وأهمها التغذية السليمة واتباع القواعد الصحية السليمة، والابتعاد عن الأماكن المزدحمة والمغلقة، وهذا من شأنه الحد من انتشاره..
الفيروس يفترض أن ينحسر مع قدوم فصل الصيف، ثم سيختفي تماما كما حدث من قبل مع مثيله فيروس "سارس"، والذي أرعب العالم من قبل. وإذا قمنا بمراجعة سريعة لما تعلنه منظمة الصحة العالمية من أوبئة منذ بداية القرن حتى الآن (من عام 2000 إلى 2020)، فقد تم الإعلان عن انتشار ما يقرب من عشرة أوبئة (السارس الذي بدأ أيضا في الصين عام 2003، وإنفلونزا الطيور، وإنفلونزا الخنازير، والكوليرا، والطاعون، وإيبولا، وفيروس زيكا، والحمى الصفراء)، وهو ما يعني أننا أمام ظاهرة تتكرر كل عامين منذ بداية هذا القرن..
أنا لا أنكر وجود فيروس "كورونا" ولا أهون من شأنه رغم ضعفه وضحالته، ولكنني أستنكر أسلوب التهويل فيه والتضخيم في خطورته، لصناعة حالة متعمدة من الخوف والرعب لدى سكان الكرة الأرضية جميعا، والتي لا أعرف لها سببا محددا حتى الآن، رغم ما يساورني من شكوك في النوايا.
كما أستنكر أيضا استثمار "كورونا" سياسيا واقتصاديا ودينيا. لقد تم توظيف "كورونا" سياسيا لضرب الخصوم السياسيين وتشويه صورهم، وانهارت البورصات العالمية وهبطت أسعار النفط، ورحب "ترامب" بهذا الهبوط، مما زاد من احتمال المؤامرة لدى البعض من مؤيدي "نظرية المؤامرات".
ثم جاء قرار ترامب بحظر الطيران الأوروبي، قبل أن يضيف لاحقا بريطانيا التي خرجت من الاتحاد الأوروبي، ما أغضب دول الاتحاد الأوروبي التي انتقدت القرار بشدة ووصفته بأنه قرار أحادي لم يستشر فيه أحد، لكنه جاء ليؤكد أن المرض لا يعترف بالحدود..
وأغلقت المساجد في بعض الدول العربية تحت ذريعة كورونا، بل بلغ الأمر لغلق المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريفين في السعودية، بحجة التعقيم، ومُنعت العمرة وربما، يمتد الأمر لمنع الحج أيضا!
هذا الهلع والرعب الذي أصاب سكان الكرة الأرضية جمعاء، جعل الكثير من مدن العالم التي كانت تضج بالحياة والحيوية على مدار اليوم، مدن أشباح بعدما أغلقت المقاهي والملاهي والسينمات والمحلات والمطاعم والمدارس، واعتصم مئات الملايين ببيوتهم.
ولعل ما قاله رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون خير تعبير عن حالة الخوف والفزع هذه، إذ قال: "كورونا سيتفشى والقادم أسوأ وعدد الوفيات سيزداد بشدة، ولا بد أن أصارحكم بأنه سيفقد كثير من الناس أحباءهم قبل أوانهم".
كل هذا الخوف والفزع الذي اجتاح البشرية، حطم الخط الفاصل بين الشمال القوى الغني وبين الجنوب الضعيف الفقير، وساوى بين أجناسها وأعراقها، وسادتها وأرذلها، بسبب فيروس صغير لا يُرى بالعين المجردة، وهو من خلق الله سبحانه وتعالى، وهو فقط القادر على صرفه إن شاء وقتما يشاء، ومع ذلك تجد أكثر الناس لا يؤمنون بدينه، ويخوضون في آياته ويجادلون فيها بغير علم، ويلهون في الباطل ويعرضون عن الحق!
تلك الانتفاضة العالمية التي لفت أرجاء الكرة الأرضية، ضد "كورونا"، لم تلتفت للحظة واحدة لملايين البشر الذين يموتون في جنوب الكرة الأرضية، جوعا أو قتلا بأسلحة فتاكة تأتي لهم من شمالها! ولو أنها حظيت باهتمامهم بعض الشيء، وانتفضوا هكذا ضد حروب من صنع البشر؛ كتلك التي تشنها الدول الاستعمارية ضد المستضعفين في الأرض لنهب ثرواتهم، أو تلك الحروب التي تشنها الدول المستبدة ضد شعوبها وما يحدث فيها من قتل وإبادة جماعية وعنصرية ودمار؛ لحُقنت دماء الملايين من البشر الذين قُتلوا ظلما وعدوانا!!
مهما بلغ فيروس "كورونا" من التوحش والقتل، فلن يبلغ مستوى التوحش والقتل لدى الأنظمة الاستعمارية والاستبدادية، وما قتلته أمريكا في حربها ضد أفغانستان والعراق يجعل "كورونا" يشعر بضعفه وضآلته ويقف خجلا أمامه! وما فعله السفاح "بشار" في سوريا وقتله حوالي المليون سوري، وما فعله ولي عهد السعودية مع نظيره ولي عهد الإمارات في اليمن وقتلهما مئات الآلاف من الشعب اليمني؛ يُعد أضعافا مضاعفة لما يُمكن أن يقتله فيروس "كورونا" في المستقبل..
وباء "كورونا" الاستبدادي أشد خطرا على البشرية من وباء "كورونا" الفيروسي، فهو يقتل أمما وليس أفرادا..
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.