لم تكن الحشود الهادرة التي خرجت تهتف باسم الحرية قبل تسع سنوات تتوقع في أحلك كوابيسها أن تنزل ثورتها العظيمة إلى المنحدر الذي وصلت إليه، وأن تتحول إلى مجرد ورقة تفاوضية بيد الكبار، تماماً كما حدث مع التوتر التركي الروسي الأخير الذي فاقم من معاناة السوريين وعمق من جراحاتهم دون أن يحقق لهم أي مكسب على الأرض، ودون أن يكون لهم أي رأي في صراع إقليمي لا ناقة لهم فيه ولا جمل، وإن سددوا فاتورته من دمائهم نيابة عن الآخرين.
ما حدث للثورة السورية كان إعداماً مبكراً لها بحرفها عن المسار الذي اختطته لها في البداية، والذي جعلها تتمدد في مختلف المناطق المهمشة والمحرومة وتحظى بتعاطف استثنائي، فقد كان نقطة قوتها الأبرز حتى أحرجت النظام السوري أيما إحراج بعدالة مطالبها وبسلميتها وصمودها أمام آلة بطشه الجبارة، وقتها كان يجد النظام السوري صعوبة بالغة في تصريف دعايته في مواجهة الصورة التي ترسخت لدى الرأي العام العالمي عن نظام يقتل شعباً أعزل.
لكن ما إن استقر الرأي عند البعض على استبدال أدوات الثورة السلمية بأدوات أخرى حتى تغير المشهد بالتدريج ليصل إلى الوضع الحالي. نفهم أن دموية النظام خلفت رغبة جامحة في الانتقام منه وفي رد عدوانه على الثوار وعلى عامة الشعب السوري، غير أن العكس هو ما جرى حيث تنفس النظام البعثي الصعداء، بعد أن مُدَّ له بطوق نجاة كان ينتظره على أحر من الجمر ليتحرر من البعد الأخلاقي في استهدافه للثورة، لا سيما بعد دخول داعش على الخط واقتتال فصائل المعارضة فيما بينها، كل هذا أطلق يد النظام أكثر فأكثر، فاستغله في استدعاء التدخل الأجنبي الروسي والإيراني والميليشيات العابرة للحدود التابعة لهما من أجل إحراق الأرض بمن عليها.
النتيجة أن العدوان لم يتوقف، بل تم تدويله، وبدل أن يقتصر على معسكر النظام وداعميه الخارجيين تمدد إلى عشرات المجموعات ذات الأجندات المشبوهة حتى ضاعت القضية وتاهت البوصلة. ذلك أن الثوار كلما سلكوا طريقاً ظنوه مخرجاً لهم من مأزقهم إلا وزادت أمورهم تعقيداً، بدءاً بأول قرار يخرج ثورتهم من دائرة السلمية عبر استخدامها للمنشقين من أجهزة النظام الأمنية في حماية مظاهراتها إلى الانخراط في مواجهات مباشرة مع القوات البعثية، إلى استقبال الآلاف من المتطوعين الأجانب إلى التدخل التركي الأخير، كنا أمام خطوات انتحارية أظهرت أننا بصدد نخبة مقامرة ليست في مستوى اللحظة الثورية المعاشة.
الحقيقة أن الثورة السورية دفعت ثمن اعتمادها على معارضة مرتبكة فشلت في قيادتها وفي الوفاء بتطلعات ثوار الميدان وبمنسوب تضحياتهم العالي، فقد أضعفت صراعاتها التي لا تنتهي موقفهم من بدايات الثورة، حيث أدخلت انتهازية بعضها وقصر نظر بعضها الآخر الثورة في دوامة الارتهان إلى الأجنبي، ذلك أن همهم اقتصر على إسقاط بشار بغض النظر عن الوسيلة المعتمدة وعن الأطراف التي تتعامل معها من أجل تحقيق تلك الغاية حتى لو كانت لا تمت بصلة إلى الهم الثوري بل وتعادي التغيير وتحاربه بشراسة في بلدانها، فهي لم تحشر أنفها في الساحة السورية إلا بغية جعلها مقبرة للربيع العربي. كذلك الحال بالنسبة للقوى الدولية التي استغلتهم بشعاراتها البراقة حول الحقوق والحريات بغية ابتزاز نظامها الحاكم كي لا يتحرر من تبعيته إليها.
عموماً فإن أبرز شيء فقدته الثورة هو الاستقلالية، فبمجرد ما أسدلت الستار عن سلميتها، فإنها بذلك قد سلمت نفسها للداعم الأجنبي، فالخيار السلمي كان خياراً محلياً أصيلاً وغير مكلف ومن يصنعه هم المناضلون الميدانيون بخلاف خيار العنف الذي يشترط تمويلاً ضخماً وتجهيزاً وتدريباً عسكرياً عالياً، كل هذا غير متاح إلا بالتبعية للخارج، الشيء الذي حول سوريا إلى ساحة لتصريف صراعات خارجية، ولا نبالغ إن قلنا إنها أصبحت أمام حرب إقليمية ودولية على أراضيها.
ثم إن المجتمع السوري يعيش فسيفساء داخلية مركبة لا يمكن معالجتها بغير الأدوات السلمية، وهو ما ظهر جلياً حين زاد الشرخ في أوساط المجتمع السوري بسبب استخدام السلاح، فانفرط عقد الثوار بفعل ولاءات فصائلهم الخارجية المتعددة وصراعهم حول شرعية تمثيل الثورة.
الثورة السلمية لم تعمر طويلاً، ولم تكن قد وصلت إلى النفق المسدود كي يجازف بعض المغامرين بتحويرها عن وجهتها، فبضعة أشهر تعتبر عمراً قصيراً حتى بمعيار معدل الثورات السلمية. نعم واجهت الثورة السورية استعصاء لبعض المناطق في الالتحاق بركبها، لكنها مع ذلك أحدثت مكاسب واختراقات مهمة فيها ولم تكن إلا مسألة وقت حتى تنضم إليها بالكامل. وحتى إن افترضنا أن تلك المناطق بقيت على ولائها للنظام البعثي فإن الوضع لم يكن ليصل إلى هذا المستوى من التأزم، وهو في كل الأحوال أفضل من الخراب العام الذي شمل البلاد والعباد، على الأقل يظل الأمل قائماَ في انبعاث موجة ثورية أخرى إن خبت الموجة الأولى.
المؤكد أن السلمية لا تعني التفريط بالحقوق مثلما يتصور البعض، فأنصارها لا يقلون تصلباً في مواقفهم عن غيرهم، لكنهم يعطون الأولوية للصمود أمام القوى القمعية حتى الانتصار عليها، ثم بعد ذلك يأتي القصاص من كل من تورط في جرائمه بحقها بعد تغيير الأوضاع واستتبابها لصالح الثوار حتى لا يحدث أي انفلات. لذلك فإن الحاجة باتت ملحة لنقد ذاتي من لدن أنصار الثورة السورية لتصحيح مسارها واسترداد قرارها من لدن من اختطفه من قوى خارجية والعودة إلى نهجها السلمي من أجل إعادة بناء الذات التي أنهكتها الانقسامات.
أنس السبطي هو كاتب رأي مغربي
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.