ضوء خافت، أصوات كثيرة متداخلة، غرفة صغيرة لا تتعدى مساحتها 12 متراً مربعاً، تقاتل الشمس للعبور إليها كل يوم، لكنها تنهزم، المنفذ صغير، أصغر من أن يسمح لها بالعبور. وأصغر من أن يجعل العصافير تطير، تتسع الغرفة في الغالب لفردين، لكن في القصص والروايات يزيد العدد قليلاً، ربما تحوي الغرفة خمسة بين جنباتها. كنت أتمنى أن يكون الوضع كذلك على أرض الواقع، لكن يقبع في تلك الغرفة قرابة الـ70 معتقلاً، بل دعنا نقُل 70 إنساناً بلا تصنيفات. لا تتسرع وتمسك بآلتك الحاسبة لتعرف نصيب الفرد من أرضية الزنزانة. خُذ الرقم كما هو، التفاصيل أكثر رعباً، في أحد أركان الغرفة حمام صغير لا داعي للحديث عنه، يكفي أن تعرف أنه رغم سوئه يجب عليك أن تحجز دوراً لاستخدامه، حين تحين فرصتك. هل يحتاج وباء كورونا فرصة أفضل من تلك ليقضي على عشرات الآلاف من سكان السجون والقائمين عليها من شرطة وقضاء؟
مسافة السكة من سجن العقرب إلى قصر الاتحادية
"يهمني الإنسان ولو ما لوش عنوان".
وباء كورونا أعمى لا يرى الرتب والمنازل، لا يفرق بين السجين والسجان، كل ما يحتاجه هو أن يصاب أحد أطراف تلك المعادلة، فلا تعرف أين ينتهي به المطاف. يقف السجين المصاب أمام وكيل نيابة في المساء، فينقل له غضبه وحزنه ومرضه، في الصباح يلتقي النائب العام بوكيله، فيأخذ منه التحية والمديح مغلفة بالوباء، بقية القصة أصبحت واضحة الآن، فوزير العدل يستدعي النائب العام، في المساء يجتمع السيسي بالوزراء، وكورونا لا يهتم مثلنا بالألقاب والمناصب، وإصابات المشاهير عالمياً خير دليل.
بدأت الحكومة في الإجراءات الاحترازية، ومنها منع التجمعات التي قد تزيد من انتشار الوباء، لذلك السجون ومراكز الاحتجاز أوْلى بتلك الخطوة، ليس حفاظاً على السجناء فقط، بل حفاظاً على الإنسان.
لما الضيوف تمشي نتحاسب
"صحة السجناء مهمة للغاية بالنسبة لنا بغض النظر عن وضعهم كسجناء أمنيين أو سجناء عاديين". هكذا صرح المسؤول عن القضاء الإيراني، بعد قرار الحكومة الإيرانية الإفراج عن قرابة 70 ألفاً من السجناء، للحد من انتشار وباء كورونا، ولمحاولة السيطرة عليه.
لا أرى مانعاً في مصر يمنع الحاكم من تلك الخطوة، فتجمعات السجناء عامة قنابل موقوتة، نظراً للظروف الصحية السيئة، والأعداد الكبيرة والكثافة العالية، غير المقبولة في الأجواء الطبيعية بعيداً عن وباء عالمي. الوقت الحالي هو الأفضل لأخذ تلك الخطوة التاريخية، فالمعتقلون ملف شائك مرهق للنظام بشكل عام، داخلياً وخارجياً، وليس أفضل من تلك الفرصة لمن أراد أن يفعل الصواب، ولو مرة واحدة، فأنصار النظام الحاكم لن يلقوا باللوم عليه في حالة أخذه لتلك الخطوة التاريخية. وهو ما كان ليحدث لو تم تحت مسمى "المصالحة" أو غير ذلك.
يمرح الأطفال بحرية في المنزل، يحدثون ضوضاء وضجة لا تحتمل، بينما الأم والأب يجالسان ضيوفهما، تغضب الأم لحالة الهرج أمام الضيوف، وفي غفلة منهم تهمس لأبنائها: "لما الضيوف تمشي هنتحاسب. ما يجراش حاجة عادي يا أم الدنيا، لو خرجنا أكبر عدد ممكن من السجناء، ونبقى نتحاسب لما الضيوف يمشوا، ده لو مشوا يعني".
أنا وابن عمي والغريب على كورونا
شهدت مصر في الأيام الماضية ملحمة شعبية عظيمة، لمواجهة أضرار عاصفة التنين، الذي لم تشهدها مصر منذ عام 1994، ولأن مبارك له ما له وعليه ما عليه كما تعلم، فالبنية التحتية كانت تحته هو فقط، أم مصر نفسها فغرقت في شبر مياه، قرى كاملة غمرتها المياه، وميادين وشوارع القاهرة تحولت لبحيرات صغيرة. انطلق المصريون في كل مكان يساعدون من يحتاج، يداً بيد مع الجهات المسؤولة وربما قبلها، إن لم يتحد المصريون في مواجهة تفشي وباء كورونا، فالجميع خاسر، يجب أن ننحي خلافاتنا جانباً، بعض الوقت حتى تمر تلك الأزمة، قبل أن تعصف بنا، فلا فائدة من معارضة أو تأييد في تلك الظروف. ففي كل الأحوال، سنخسر جميعاً، لن يحمي أحد تأييده، ولن تحمي الكراسي أصحابها، كذلك النجوم اللامعة على الأكتاف، لن تنفع المحاولات الشخصية من أصحاب القرار، للنجاة بأنفسهم، فحتى القصر لن يحمي ساكنه، "قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ" (هود: 43).
"اذهبوا فأنتم الطلقاء"
يصدح الشيخ إمام: "يا حبايبنا فين وحشتونا.. لسَّه فاكرينا ولا نسيتونا؟". فأردُّ من فوري: لا، والله لم ننسَ، فلتفعلها مصر من أجل مصر نفسها، ولتفعلها من أجل عشرات الآلاف من الأسر الحزينة منذ سنوات، فربما تكون بداية جديدة للحياة في البلدة التي ظلمت نفسها.
وأخيراً يا مصر، أرجو إن لم يقلّ عدد المعتقلين، ألا يزيد واحداً، فأمي ستحزن لهذا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]