بعد متابعة دامت ساعات متواصلة لمسلسل إسباني طويل على "نتفليكس"، توقف البث فجأة عند مشهد شديد التشويق، وظهرت على الشاشة عبارة موجهة إلى المشاهد: هل ما زلتَ هنا؟ عندها عليك أن تعيد الضغط على زر التشغيل، فيطمئن التطبيق الذكي أنك ما زلت متسمّرا بكل بلاهة الدنيا أمام أحداث مسلسل مصمّم أصلا كي لا ينتهي، فيواصل البث من جديد، خطر لها أن تجيب: وأين تريدني أن أكون يا ابن ال..؟ أين أهرب من سطوتك، والجهات الرسمية تطالبني بأن ألتزم البيت، وألا أغادره إلا للضرورة القصوى؟
غرابٌ أسود ينعق بلا توقف على سطح البناء المقابل. توقفت السيدة غريبة الأطوار عن التشاؤم عند رؤية مشهدٍ كهذا. منذ شاهدت برنامجا وثائقيا عن الأخلاق الرفيعة للغربان، تبيّن لها أنه طائر نبيل، لا يخذل صاحبه في شدّة. تتابع بانتباه شديد المسلسل الذي تجري أحداثه في ماربيّا، وهي بقعة رائعة في الجنوب الإسباني، شواطئ فسيحة وجبال يغطيها لونٌ أخضر غامق، وشوارع ضيقة متعرّجة. وعدت نفسها بزيارة تلك المدينة، حال انتهاء أزمة "كورونا"، لأن إسبانيا ضمن الدول الممنوع زيارتها حتى إشعار آخر. الغراب الأحمق يواصل النعيق، لعله يفتقد أنثاه التي غادرت من دون رجعة… هل تسلل الضجر إلى روحها المتعبة جرّاء نعيقه الذي لا يؤدّي إلى شيء؟
حاولت ألا تشغل بالها بأمرهما، فليذهبا إلى الجحيم، تغسل يدها للمرّة العاشرة، انصياعا لتوجيهات منظمة الصحة العالمية، تترك الماء ينساب عشرين ثانية بالتمام. تردّد، في الأثناء، أغنيةً تحاول ألا تكون حزينةً، تخطر في بالها أغنية "نطرونا كتير". ردّدتها من دون اقتناع كبير، ليقينها أن أحدا لم يعد ينتظر أحدا في زمن متوحش، كشّر عن أنيابه، وتهيّأ لنهش ما تبقى من أمل في أرواح انكسر قلبها مراراً. كتب لها الطبيب حبوبا مهدّئة لمواجهة نوبات الهلع التي عانت منها طويلا قبل حلول كورونا. قال إنها من النوع الخفيف الذي لا يرتّب آثارا جانبية، ولا يؤدّي إلى الإدمان. أكد لي أنه وزملاءه يتناولونها يوميا لمواجهة ضغوط المهنة، حيث الاشتباك اليومي مع الألم. رضخت السيدة غريبة الأطوار لتعليماته، ولاحظت تحسّنا على نوعية أحلامها، فاختفت الوحوش الضارية، وعاد موتاها من الأحبة إلى قبورهم، بعد أن كفوا عن الهمس بأذنها، معاتبين على أفعالٍ لم تقترفها، وغابت القطط السوداء السمينة التي تتقافز على سريرها كل ليلة، فتنهض مذعورةً، وهي تتصبب عرقا.
فكّرت بمهاتفة الطبيب البارع كي تشكره على الوصفة السحرية التي أوصلتها إلى مرحلة التوازن النفسي أخيرا. كان ذلك، قبل أيام قليلة من الإعلان عن اكتشاف إصابات بفيروس كورونا في الصين، حين عبر كثيرون عن شماتة كبرى بتلك الشعوب الكافرة التي استحقّت عقاب الله، ومارس كثيرون منهم أبشع أشكال التنمّر والعنصرية الكريهة على أفرادٍ من العرق الآسيوي، شاء حظهم السيئ أن يوجدوا في بلادنا.
الآن اختلف كل شيء، بعد أن كفّ الشامتون عن شماتتهم، وقد مسّت النار أطراف أثوابهم، يتضرّعون إلى الله أن يجنبهم هذا الابتلاء. انحسرت موجة التظارف السخيف والنكات الممجوجة، بعد أن أيقن الجميع، أخيرا، أن "القصة مش مزحة".
وفي ظل كورونا، تراجعت الهواجس الشخصية للسيدة. تقضي وقتها في شبه عزلة، تتابع فيض الأنباء غير السارّة. تتأمل في هذا الهلع الكوني المتفشّي في كل مكان. تراقب الناس المذعورين يهرعون إلى الصيدليات، بحثا عن كمّامات ومعقّمات قوية المفعول، يتجنّبون المصافحات والعناقات والقبلات المجانية.. تمر الأيام عليها ثقيلة غير واعدة، يقطنها التوجس والريبة، تغدو الحياة أضيق من خرم إبرة، فيما الغراب الأسود يواصل النعيق من على سطح الجيران، لأسبابٍ غير مفهومة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.