في مطلع شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2017، تفاجأ العالم بأحداث احتجاز كبار الشخصيات في الأسرة الحاكمة السعودية، كالأمير ورجل الأعمال الوليد بن طلال، والأمير متعب بن عبدالله، نجل الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز. وحالياً يدور الحديث حول اعتقال أمراء أكبر شأناً، وهم الأمير أحمد بن عبدالعزيز، الأخ الشقيق للملك الحالي، والأمير محمد بن نايف، ولي العهد السابق.
وهناك تحليلات كثيرة لما حدث ويحدث الآن، فيرى البعض أن الاعتقالات توحي بانشقاقات في العائلة المالكة، أو بتمرد بعض أفرادها، أو بهشاشة النظام السعودي وبشيخوخته، لكن المشكلة في هذه التكهنات هي أنها توحي بأن ما يحدث ظاهرة سلمانية جديدة، بدأت مع اعتلاء الملك سلمان بن عبدالعزيز العرش، لكن الحقيقة هي أن الملك سلمان يباشر مَهمَّةً وُكلت إليه قبل خمسين سنة، وأعني مسؤولية تأديب ومقاضاة الأمراء وذوي الجاه في المجتمع السعودي. ولفهم ما يدور الآن لا بد من معرفة المجتمع السعودي وكيفية توزيع الأدوار داخل العائلة الحاكمة، وكذلك الحالة السيكولوجية للملك والأمراء المستهدفين.
فالتعقيدات القبلية والأسرية السعودية فرضت على آل سعود توكيل ملفات حساسة لكبار الأمراء، ومن بينهم الأمير سلمان بن عبدالعزيز، بصفته أحد أبناء الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن، مؤسس الدولة السعودية الحالية، وأحد السديريين السبعة، أقوى فرع في الأسرة المالكة. وقد أوكِلَ إليه، منذ فترة طويلة جداً، ملفات النخبة السعودية، وخاصة ملف تأديب الأمراء ومقاضاتهم في خلافاتهم مع الآخرين.
فكل من لديه إلمام بالمجتمع السعودي يعرف أن المجلس الأسبوعي للأمير سلمان، حين كان أميراً لمنطقة الرياض، كان مقصد المضطهدين والمظلومين من قبل الأمراء ورجال الأعمال المتنفذين، الذين قد لا يتجاسر أي قاض محكمة بِبَتِّ حُكْمٍ ضِدّهم. وقد كان أمير منطقة الرياض معروفاً بحزمه ضد الظّلمة ذوي النفوذ، وبأسلوبه الفعال في حلّ ما يسبّبونه من مشاكل، كالاتصال الفوري بهم واستدعائهم، وأحياناً زجّهم في سجنه الخاص.
وبجانب هذه المهمة فقد كان الأمير سلمان يتولى ملفات أخرى تخص الأمراء، لاسيما مسؤولية إصدار تزكية مُرَقَّمَة لكل أمير يريد مباشرةَ أي نشاط، ومن دونها يستحيل مزاولة ذلك النشاط. فمثلاً لا يمكن تعيين أي أمير دون تصريح من مكتب الأمير سلمان.
إن توكيل ملفات الأمراء والمتنفذين السعوديين لسلمان بن عبدالعزيز منذ أمد بعيد أعطاه هيبة كبيرة من قِبل الأمراء ورجال الأعمال، وهذا يُعد سلاحاً سيكولوجياً سلمانياً قوياً لم يتمتع به أحد من ملوك آل سعود الآخرين. فالملك فيصل بن عبدالعزيز اعتمد على الأسرة المالكة وعلى المؤسسة الدينية لخلع الملك سعود، والملك خالد وفهد وعبدالله كانوا معروفين باحترامهم الشديد للتوازنات داخل آل سعود، خوفاً من إغضاب فرع معين؛ لكن الأمر مختلف جداً مع الملك سلمان بن عبدالعزيز، حيث لا يوجد عنده هاجس خوف من أفراد الأسرة الحاكمة، خاصة بعد وفاة الأمراء الأكبر منه سناً، فهو نفسياً يباشر وبارتياح دوره كملك، إضافة إلى مهامه السابقة في تأديب الأمراء والنخبة المالية والعلمية.
إن حادثة الريتز كارلتون وغيرها من حوادث اعتقال كبار الأمراء والأثرياء السعوديين تدخل في إطار صلاحيات الملك سلمان، التي دامت أكثر من أربعين سنة، فهو مرتاح سيكولوجياً بتنفيذ مهمة روتينية، لكن مع حجم يناسب مهمته الحالية (الملك)، والسابقة (جلاد الأمراء والأرستقراطية السعودية).
ويبدوا أن الأمراء يتقبلون نفسياً تنكيلَ سلمان بهم أكثر من أي فرد آخر في الأسرة المالكة، حيث تعوَّد كثير منهم على ركلاته منذ وقت مبكر! فمنذ سنوات تم منع غير واحد من الأمراء من السفر من قِبَل الملك الحالي، أو باسمه، ولم يصدر منهم ولا من أقاربهم أي تذمر، ولا ما يشبه الشكوى مما يعانون منه.
إن تقبُّل أفراد أسرة آل سعود سيكولوجيا كلَّ ما يصدر ضدهم من الأمير سلمان أو باسمه منذ عقود، وكذلك السلاح النفساني الذي يتمتع به الملك الحالي من عدم الخوف من أي أمير مَهْمَا عَلاَ شأنه، هو السبب الرئيسي في قراره الجسور جداً، ألا وهو تغيير مسار الملك نهائياً، بتعيين ابنه محمد ولياً للعهد. فلا أحد من أبناء الملك عبدالعزيز يجرؤ على تنصيب نجله ولياً للعهد بدلاً من أخيه إلا الملك سلمان، لأنه ورث الملك مع سلاح سيكولوجي لم ينعم به أحد من الملوك السابقين.
إذن، فما حدث ويحدث الآن من اعتقال أفراد أسرة آل سعود لا يعد حدثاً استثنائياً، ولا يمثل انشقاقاً في الأسرة الحاكمة، ولا يوحي بشيخوخة نظام، بل هي حالة سيكولوجية للملك ولأفراد آل سعود المستهدفين.
وبديهي أن محمد بن سلمان، ولي العهد الحالي، يعرف ذلك جيداً، وقد استغل كثيراً سلاح والده النفساني الذي لا يهاب أحداً ويخافه الجميع، ولذلك فلن يتردّد في اعتلاء العرش في حياة والده، للاستفادة من هيبة أبيه التي قد تحصنه من رفض العائلة الحاكمة تنصيبه ملكاً، لكن السؤال المحير هو مدى إمكانية استفادة محمد بن سلمان من سلاح الهيبة الأبوي بعد وفاة والده؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.