في أحد الأيام، أحضر أحد التجار حصاناً إلى الملك "فيليب" ملك مقدونيا والد "الإسكندر الأكبر"، وعرض عليه أن يبيعه إياه مقابل مبلغ من المال، ولمَّا حاول الملك أن يركب الحصان قاومه الأخير ورفض أن يمتطيه، وكاد يُوقع المَلك على الأرض، هنا ثار الملك وأمر بذبح الحصان، لأنه حصان لن يروَّض، وكان ابنه "الإسكندر" ابن العاشرة من عمره جالساً ضمن الحاشية، فوقف طالباً من والده أن يسمح له بمحاولة تهدئة الحصان ومن ثم ركوبه، فقبِل الملك طلب ابنه وسمح له بمحاولة ترويض الحصان، وهو ما نجح فيه الإسكندر الصغير، فاستطاع كبح جموح الحصان وامتطى ظهره، فدُهش الملك وانسابت دموعه فرحاً بشجاعة ابنه، وقال مخاطباً إياه: "يا بني، عليك أن تجد مملكة تسع طموحاتك، إن مقدونيا لصغيرةٌ جداً عليك".
ويبدو أن الملك "فيليب" كان يقرأ المستقبل، فمع مرور السنوات كبر "الإسكندر" وأصبح طموحه واضحاً في ميراث والده على عرش مملكة مقدونيا، ولكن هناك مشكلة وهي أنه "نصف مقدوني"، حيث إن أمه الملكة "أوليمبيباس" ليست مقدونية، وإن الملك الذي سيعتلي العرش يجب أن يكون مقدونيّاً خالصاً من الأبوين، وهنا حاول الملك أن يذهب بالتوصية باعتلاء العرش لابنه من إحدى زوجاته الأخريات، وهو ما جعل "الإسكندر" يتعجّل اعتلاء العرش، ويروّض كل الأحصنة من الأمراء الذين ينافسونه في الطريق لاعتلاء العرش. وقد كان العرش له في النهاية مروَّضاً طائعاً بمساعدة أصدقائه المخلصين، وهو بعدُ لم يتخطَّ العشرين من عمره.
****
في مكتبه يجلس الملك السعودي فيصل بن عبدالعزيز، مجتمعاً بوزير البترول الكويتي وفي حضور وزير البترول السعودي، وفي هذه الأثناء دخل أحد أمراء الأسرة الحاكمة، وهو الأمير فيصل بن مساعد بن عبدالعزيز، عليهم المكتب وأشهر مسدساً وأطلق رصاصات باتجاه الملك، الذي وقع صريعاً ولم تفلح محاولات إسعافه. وقد تم إعدام الأمير الشاب الذي قتل عمه الملك دون الإعلان عن أسباب واضحة للاغتيال؛ بل ذهبت الحكومة السعودية إلى وصف الأمير الشاب بـ"المختل عقلياً". وترك طرح الأسئلة للمعنيِّين بالشأن السعودي داخلياً وخارجياً، ما بين قائل إن الأمير قتل الملك بسبب موقفه الشهير بقطع البترول إبان حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، مدعوماً من أمريكا التي كان يدرس فيها، وقائلٍ إنه انتقام من الملك، بسبب قتل القوات السعودية لأخيه الكبير "خالد" عندما حاول اقتحام مقر التلفزيون السعودي في الرياض بالسلاح؛ لرفضه مظاهر الخروج على تقاليد المجتمع السعودي.
ولكن هناك أسباب أخرى تتعلق بخلافة الحُكم وحساسيته الشديدة في السعودية، فهناك من يقول إن الأمير تم الدفع به لتصفية الحسابات، على خلفية عزل الملك "سعود" وتولية أخيه الملك "فيصل" بدلاً منه. وهناك من يقطع بأن القتل جاء لأن الأمير القاتل يتصل بقرابة من ناحية الأم إلى آل الرشيد المنافسين لآل سعود في حكم المملكة، وأن القتل جاء للانتقام لأقربائه من آل الرشيد، من السعوديين الذين أبعدوهم عن الحكم. وأياً ما كانت الأسباب التي قيلت لتبرير عملية اغتيال الملك فيصل، فإن الثابت أمام الأعين أن عملية ترويض الأمراء الجامحين من أُسرة آل سعود، وعددهم بالآلاف، والطامعين في الحكم، لم تكن كاملة، وقد دفع الملك المغدور ثمنها.
****
مع اندلاع ثورات الربيع العربي وما صاحبها من فوران شعبي طال كل الدول العربية تقريباً، ومع مرور السنوات الأولى، لم يلتفت أحد إلى أن هناك ربيعاً آخر بمواصفات مختلفة تجري أحداثه على ضفاف الخليج العربي، إنه "الربيع الخليجي" الذي يدفع بتولي أمراء شباب مقاليد الأمور في الخليج، يتمتعون بخلفية ثقافية غربية وأكثر انفتاحاً من الأجيال السابقة من الملوك والأمراء الخليجيين.
ومع اعتلاء الملك السعودي "سلمان بن عبدالعزيز" الحُكم، فقد جرى تصعيد الأمير الأشهر "محمد بن نايف" كوليٍّ للعهد، في خطوة بدت متوقعة لكثيرين خارجياً وداخلياً؛ لما يتمتع به "محمد بن نايف" من شهرة وصِلات دولية واسعة، وبداية النهاية لحكم السديريين السبعة الكبار وانتقاله إلى الشباب من أسرة آل سعود. ولكن فجأة تم استحداث منصب "ولي ولي العهد"، وكان من نصيب الشاب "محمد بن سلمان" ابن الملك نفسه، وهو ما قوبل ساعتها بالدهشة وعدم الاكتراث لكون الأمير "محمد بن نايف" ولي العهد هو الملك القادم لا محالة.
ولكن لم يمر وقت طويل حتى صدر قرار قضى بإقالة الأمير "محمد بن نايف" وتصعيد الأمير "محمد بن سلمان" لولاية العهد منفرداً، ذلك الأمير الذي يطلق عليه أصدقاؤه لقب "الإسكندر الأكبر" طبقاً لما نشرته جريدة "الإيكونومست" آنذاك، والذي -فيما يبدو- استشعر أن هناك من يحتاج للترويض والحد من جموحه؛ من أجل تنفيذ خططه للوصول إلى العرش السعودي، فكان ترويض الأمراء ورجال الأعمال من داخل العائلة وخارجها، واعتقلهم في فندق "الريتزكارلتون" الفخم، وأجبرهم على التنازل عن بعض ثرواتهم؛ من أجل دعم رؤيته النهضوية للنهوض باقتصاد المملكة، وتقليل اعتماده على النفط، وفق رؤية 2030 التنموية.
وقد بدا للعيان والمتابعين أننا أمام مشهد ترويض حصان الملك فيليب قديماً، وأن الإسكندر السعودي قد استطاع ترويض الأحصنة المنافسة له والتي تعوق حركته، وأن الطريق قد أصبح ممهداً نحو العرش، لا يفصله عنه إلا إعلان وفاة الملك.
****
صُدم العالم على وقع المجازر والتجاوزات في الحرب اليمنية التي شنها الأمير الشاب لدعم الحكومة الشرعية باليمن، في مواجهة الحوثيين المدعومين إيرانياً، وهي الحرب التي أثرت في مشروعات ولي العهد ورؤيته الخاصة، كما صُدم العالم بحادثة مقتل الصحفي السعودي "جمال خاشقجي"، وهي الحادثة التي هزت العالم كله ومعها صورة الأمير الشاب ولي العهد التي كانت تسوَّق على أنها صورة حداثية لأمير من الخليج مخالف لما هو متعارف عليه من الأمراء والملوك السابقين لدى الغرب وأمريكا.
هنا ظهرت بعض الأحصنة التي لم تروَّض وأرقَّت نوم ولي العهد، من أمراء العائلة، والتي ظن الأمير الشاب أنه بمجرد إظهار بعض القوة تجاههم وتحديد إقامة بعضهم، فإنه بذلك قد روَّضهم، وأصبحوا يطالبون بنظام تولية للعرش لا يكون ولي العهد الحالي طرفاً فيه، لأنهم يرونه غير جدير بتولي العرش السعودي، الذي يقبع تحته أكبر ثروة بترولية في التاريخ.
ومع تباطؤ الأداء الاقتصادي العالمي وتراجع سعر البترول عالمياً، وارتفاع تكاليف الحرب في اليمن، فضلاً عن الشروخ الكبيرة التي لحِقت بصورة ولي العهد السعودي نتيجة حادثة مقتل "جمال خاشقجي"، فقد أصبح يُنظر إلى الأمير الشاب دولياً على أنه حصان جامح غير مروَّض، يجب أن يتم ترويضه، حتى لا تسوء الأمور من بين يديه، وهو ما شجع الأحصنة المنافسة من داخل أسرة آل سعود على المطالبة جهراً بتغييره؛ بل تحميله المسؤولية عما وصلت إليه المملكة من تدهور، من وجهة نظرهم.
****
على الرغم من الاعتقالات التي قام بها ولي العهد السعودي "محمد بن سلمان" مؤخراً والتي طالت أمراء كباراً في العائلة يعتبرون منافسين كباراً على العرش؛ في محاولة استباقية لتأمين العرش من الطامحين إليه من الأحصنة غير المروَّضة، وأسباب الاعتقال من جانب الأمير الشاب بدت منطقية من وجهة نظر أحصنة تتسابق نحو العرش، فإن الأسباب التي تم تسويقها شعبياً لدعم الأمراء المعتقلين بدت من الطابع ذاته الذي تم تسويقه لتبرير اغتيال الملك "فيصل" قديماً، فقد قيل إن سبب تمرُّد أو انقلاب الأمراء هو الموجة التحديثية والحفلات الغنائية التي تجتاح المجتمع السعودي والمخالفة للشرع، وإغلاق الحرم المكي بحجة وباء فيروس كورونا، مع عدم إغلاق مواقع الحفلات الغنائية كما قيل سابقاً في حادثة اقتحام تلفزيون الرياض. ولكن يأتي السبب الرئيس في تلك الاعتقالات وهو عدم رغبة أخي الملك الأمير "أحمد" في دعم ابن أخيه، ولي العهد، لتولي العرش السعودي، مع بعض التلميحات بأنه جاهز لولاية العرش، لأنه الأجدر بذلك، إذ إنه آخر أبناء الملك "عبدالعزيز بن سعود". وفي المقابل، شعبية الأمير "محمد بن نايف" المحدد الإقامة تزداد بين أوساط الشعب السعودي؛ وهو ما يسبب قلقاً مشروعاً لولي العهد "محمد بن سلمان"، ويجعل الجميع يدفع بأن تلك هي الأسباب الرئيسية لعملية اعتقال الأمراء الكبار وتوجيه تهمة الخيانة إليهم.
****
ولي العهد السعودي "محمد بن سلمان" الذي أحاط نفسه، كما الإسكندر الأكبر، بأصدقاء أداروا معه المشهدين السياسي والاقتصادي، وظن وظنوا معه أنهم قادرون على ترويض الأحصنة التي تطمح إلى العرش السعودي، ولكن خبرة السنين كانت تنقصهم، وأداروا المشهد بجموح الشباب غير المروَّض والذي أوقعهم في مزالق كثيرة، وهو ما جعل الأحصنة الخبيرة التي تتمتع بشعبية واسعة داخل أجنحة الأسرة الحاكمة، تلتقط أنفاسها وتعيد نفسها إلى حلبة السباق مرة أخرى. ولن يغيّر منطق الاعتقالات الأميرية من حقيقة أن المشهد السعودي أصبح خليطاً بين طموح ولي عهد ينظر إلى الإسكندر الأكبر على أنه نموذج قابل للتكرار، ولكنه غير قادر على ترويض الأحصنة، ومبررات اغتيال الملك "فيصل" التي تخلط الصراع على السلطة داخل العائلة مع مبررات دينية وشعبية؛ لدفع الأمور دفعاً إلى تنحية ولي العهد خارج المشهد.
فهل ينجح الأمير الشاب، ولي العهد "محمد بن سلمان"، في أن يعطي المَثل الأبرز على نجاح الربيع الخليجي الذي أتى بأمير حداثي يخاطب المستقبل أم يدخل الربيع الخليجي مرحلة الشتاء القارس مدفوعاً بصراع على السلطة بين أجنحة الأسرة الحاكمة، لا يعلم إلا الله إلى شيء سينتهى؟
وهل ينجح ولي العهد "محمد بن سلمان" في ترويض الأحصنة الجامحة الطامعة في الحكم كما فعل الإسكندر الأكبر نموذجه المفضل في قيادة البلاد؟
سؤالان سيظلان معلَّقين إلى حين لحظة إعلان اسم الملك السعودي القادم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.