معاناة أن يكون المرء مطلوباً لا طالباً.. زواج الفتيات بين التقوقع والانفلات

عدد القراءات
11,781
تم النشر: 2020/03/10 الساعة 16:04 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/03/10 الساعة 16:04 بتوقيت غرينتش

حدثتني كثيراً عن الزواج والتربية، وحلمها المتواصل لبناء أسرةٍ مسلمةٍ على حق، وأنه كيف لفتاةٍ جميلةٍ مثلها أن يُغضَّ الطرف عنها فلم يتقرَّب أحدهم طالباً يدها! في حين أن الأخريات يُساق إليها خبر زفافِهنَّ تباعاً رغم أنهنًّ لا يختلفن عنها في كثير؛ بل قد تفوق أكثرهنَّ خلقاً وعلماً، وأشهد أنا بذلك. فقلت متبسماً: "يقولون إنَّ النساء بطبعهنَّ، كائناتٌ وصوليَّةٌ مُنتهزة، تتصيَّد الفرص، وتنساق نحو جميل الطرح كما يقتضي الموقف. فأرجو أن يعينني الله في لحظةٍ ما، حين تقترفينَ أنتِ حماقةً أحبُّها ويكرهها أبواكِ، فترضِينَ عنِّي بغيرِ حولٍ منهم ولا قوة، حماقةً لا تجلبُ الندم، لأنَّنا نهرب معاً لذات الشيء حين تضيق بنا الدنيا: كتاب وقلم. وهناك، بين بيان الجاحظ ووحي الرَّافعي وظلال قُطب، سندرس أمر تصالحنا حول علامات التَّعجب." فتعجَّبتْ، وأكملتُ أنا.

معالم في الطريق

أعرف أن الحمل ثقيل؛ أن يكون المرء مطلوباً لا طالباً هو حملٌ ثقيلٌ على النفس، لكن للَّه في خلقه شؤون، ومن أمره حِكمٌ وآيات. يصعِّد من ثقل الحمل، فساد العرف وتفشِّي المادية وعلمنة الزواج، وربطه بمورَّثاتٍ سطحية يعزِّزُها أمران: شهوة المال لا راحة البال، وطبقية التعليم في كنفِ شهاداته وإن جَهل به حاملها. وبينهما أمورٌ متشابهاتٌ من جانب بعض الأزواج كسوء العشير، وكذا الأفكار السلبية المورَّثة للأجيال السابقة وجهلهم بما ينفع عيالهم في دينهم ودنياهم. لكن كما أنَّ للعملة وجهين، فللرواية وجهٌ آخرٌ مهمٌّ وإن قلَّت صفحاته؛ ويختص بكنَّ لا غير.

هكذا أرى النساء، أكثرهنَّ للأسف؛ يحملن البأسَ في يدٍ واليأسَ في اليدِ الأخرى، وكأنَّ خَلقهنَّ من ضلعٍ أعوج يُرىٰ إعجازه عياناً بياناً فلا اختلاف فيه. فيَمِلْنَ إلى إثبات حقيقةٍ ما يجهلن عبثيتها أكثر من المنوط إثباتها لهم، فيخلطنَ بين الخشونة والتعفُّف، والإقصاء والاستقلال، والرعونة والمرونة، والعفاف والجفاف، والحياء والبرود. وبينهم أمورٌ متباينات، وتفريطٌ يقابله إفراط، وقليل ما هنَّ من يفطنَّ إلى المعادلة، فيسلُكنَ الجادة لا بنيات الطريق، ويعلمن أن خير الأمور الوسط.

وبعد أن رُسمت ملامح الصورة، وجُمعت حواشِي مادتها، يأتي الآن دور تشكيلها والوقوف على تفاصيلها المبهمة. وعند ذكر المرأة فليس للإيجاز مكانٌ هاهنا؛ إنما إطنابٌ غير مُخِلٍّ ولا مُمِلٍّ، فيناسب طباعها المتقلبة ومشاعرها الفيَّاضة. وأقول: إنه يتمحور دور الفتاة المسلمة في مرحلة الزواج -من منظورٍ شخصيٍّ- حول أمرين أساسيين، وهما: الدعاء الصادق، ثم الأخذ بالأسباب. فأمَّا الدعاء فأمره معروف؛ يتشارك فيه العباد في جلب خيرٍ أو دفع شرٍّ. وأمَّا الأخذ بالأسباب؛ فكما تجْتذِبُ الأنثى شريكها بين الحيوانات، أو يتقاتل الذَّكران للفوز بها فيقدِّم أحدهما استعراضاً معجزاً لا خلل فيه، فهنا أيضاً يتشارك فيه كلاهما مع اختلاف الطرائق والمنهجية وشرعة البشر.

وإذا انتقلنا إلى دور المرأة، فلا نعني أن تتحول من كونها أنثى لها بريقها المُصان وحياؤها الطاهر، إلى مترجِّلةٍ في ثوب امرأة، فتخالف فطرتها وحدود ربها لتتحول من طابع الأنوثة إلى كائنٍ آخر ليس له وصفٌ دقيقٌ بين مجتمع الرجال والنساء؛ يطلقون عليه "Feminism" أو النسويَّات. لكن ما نعنيه هنا يتلخص في مصطلحٍ دقيقٍ مقتضاه: "Social Visibility" أو الظهور الاجتماعي. وبه تخرج الفتاة من سجنها الذي صنعته بيديها وأغلقت بابه على نفسها، إلى محيط تأثيرها المكفول تحت ضوابط وتشريعات الدين. ولن يتم هذا إلا إذا تخلصت من إحدى هذه الشخصيات أو السمات التي تلبست بها -حبّاً أو كرهاً- أدناه.

أولاً: جمال وظِلال

وهنا أفتتح أولهنَّ بسؤال: بماذا يفيد حفظ المعلقات العشر وكمال العقل، إذا انغلقت إحداهنَّ في حجرتها فلا يسمع عنها جار أو مار، بل وقد يُجهل وجودها بالكلية؟! فيأتي السائل باحثاً عن زوجةٍ له، فلا يفطن أن الباب المجاور يخفي وراءه ضالته التي ينشدها. هي تظن بفعلها أنها تحلق بأجنحة الحياء في جنة العفيفات، وتتخذ من خطى الصحابيات والتابعات (رضوان الله عليهنَّ) طريقاً لها دون إدراك شروطه وأحكامه؛ "فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْل." [1] والخضوع لا يعني أبداً الانغلاق والتصومع؛ "ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ." [2] بربكِم! ليس من صور الحياء ارتداء ثوب الخفاء، وليس دون الخضوع تصدير الغلظة والوجه العبوس، إلى أن ينتهي الحال بإحداهن إلى التشكيك والتذبذب بين أوامر الله ونواهيه، لأنها لم تجد في التعفف الذي رسمت ملامحه خطأً سبيلاً لوصلٍ حلالٍ كما تخيلته. والحل هنا بسيطٌ للغاية؛ أن تزاحم يومها بالمشاركات الدينية والاجتماعية المختلفة مع صديقاتها وأقربائها وجيرانها، تلك التجمعات التي يتبادلن فيها أطراف الحديث في أمور الدين والدنيا دون إسرافٍ أو مغالاة. كما يمكنها مشاركة طلب العلم داخل دور التحفيظ أو المكتبات العامة مع نساءٍ أخريات. هي بذلك تخلق مجالاً مناسباً للتنفيس عن روحها وعقلها، وتصنع قالباً اجتماعيّاً ودوراً إيجابيّاً يمكِّن الآخرين من رؤيتها والتعرف على شخصيتها.

ثانياً: هروب إلى الهاوية

ثم كيف تواجه الأخرى عنصرية المجتمع الذي فسد وضل -وهي غير ملامةٍ في ذلك- بعنصريةٍ أخرى مضادة؟ عنصرية يرتفع إيقاعها مع الوقت، فتتطرَّف من استقلالها المباح إلى الإقصاء التام، وتدفع بذلك الشرقيّ القُحّ، المسيطر -في نظرها- بعيداً عنها. إقصاءٌ منبته خوفٌ داخليٌّ غير حقيقي تجاه معشر الرجال، نبتَ إثر نشأةٍ غير سويةٍ ومشاكل نفسيةٍ وشعوريةٍ وقلة نضج، فتكبت بيديها رغبتها في الزواج، وتعطِّل هدي الله وسنَّته بدفاعيَّةٍ مفرطة دون أن تدري، فتتعالى على فطرة الكائنات في احتياجها لشريكٍ تسكن إليه، وتتبرَّأ من فضل بناء الأسرة وتربية أبناء صالحين لهذا الدين. ثم تغرق رويداً في علمنة شخصيتها وكيانها، وتسعى لتحقيق ذاتها وحيدةً شريدةً كما صوَّرته وزيَّنته لها أذناب النسويَّة، ظنًّا منها أن في الزواج هدماً لطوابق شخصيتها، وتشويهاً لأساسها. ومعالجة ذلك لن تتم دون معرفة حقوقها وواجباتها التي كفلها الدين، والبحث عن الشريك الصالح الذي يستحقها دون وأدها باسم الاستقلال.

ثالثاً: أميرة من نار

وماذا عن تلك الحصينة التي شيدَّت أسوار قلعتها بحجارةٍ من نار، فوق تلةٍ جبليَّةٍ تنكسر أعناق القوم وما هم ببالغيها، فينصرف عنها القاصي والداني، ويتهرَّب منها الزائر -وإن كان يستحقها- مخافةَ أن يخسر ماء وجهه فلا يتحصَّل عليها. وكيف لا؛ وهي تتألق خُلقاً وخَلقاً ونسباً وحسباً، لكنَّ ذاك المسكين أدنى من أن يقترب، وهي أعظم ممَّا يطمح؛ تصدّه هالتها المثالية، وبريقها اللامع، وجنودها الأقربون الواقفون كالبنيان المرصوص، رافعين راياتٍ خُطَّ عليها بحروفٍ من نار: "احفظ ماء وجهك ولا تقترب، فلا قبل لكَ بها". وقد ينتهي الأمر بها رهينة زيجةٍ روتينيةٍ عقيمة -وإن بدا ظاهرها جميلاً براقاً تزيِّنه الأموال ورغد العيش- فتتحطم على إثرها كل أحلامها التي نسجتها وسعت لتحقيقها طيلة حياتها -الطويلة- القصيرة.

رابعاً: الأختُ التي لم تُنجِبها أمِّي

وأما هذه فأمرها عجب، فقد تصدر إحداهنَّ قراراً ملكياً باطنيّاً لا رجعة فيه: "أنا لست أهلاً للارتباط أيها السادة!" قرارٌ يستشعره الغير دون البوح به. فهي لا تصدِّر لهم إلا جانبها الأنثوي الذي يتسم بالقوة والصلابة والنجاح بعيداً عن أي شريكٍ كان، فلا يستطيع رجل مهما بلغ من القبول والانجذاب أن يتقرَّب منها، لأنه ببساطة لا يرى إلا عزوفاً كاملاً عن الزواج، أو استشعاراً ظنيّاً أنها تنتظر أحدهم لا غير. وهي على ذلك تُقابل دائماً بالترحيب والاحترام والوجه البشوش الحسن، وتجد عند الآخرين توقيراً وامتناناً يليق بها كملكة، لكنها ملكةٌ بمثابة أخت؛ لن تفارق صفتها أبداً. فالدماء التي جفَّت منذ الانطباع الأول، حالت دون رؤيتها كأنثى مشتهاة، فحوَّلتها إلى أنثى تحت مظلة الأخوة.

بداية النهاية

كل تلك العوائق التي يصنعنها بأيديهنَّ ويصدِّرنها للآخرين، وربما لا يدرين بها ومن حولهنَّ من صديقاتٍ وأحبابٍ وأهل، بالإضافة إلى الظروف الاجتماعية الصعبة، عوائق تُزهد فيهنَّ الرجال، وتزيد من تعثُّر منظومة الزواج التي شرعها الله وكفلها لخلقه حتَّىٰ يسكنوا إلى بعضهم في ودٍّ ورحمة. وحيث أنه لا يوجد أسلوبٌ مباشر، صحيح أو خاطئ، في كل المواقف، فالمورَّثات -كما يشار إليها في علم النفس- تتَّخذ مكاناً لها يفوق النصف بقليل بين مكونات العقل البشري، فتتباين بين فتاةٍ وأخرى تبعاً للبيئة التي نشأت داخلها، بالإضافة إلى التأثيرات الدينية والتربوية والتعليمية والاجتماعية المختلفة التي تأثَّرن بها خلال مراحل حياتهنَّ المختلفة. لكن وبشكلٍ عام، تنشأ تلك الثغرات نتيجة الخلط بين مسميات الأشياء ببعضها؛ بين إقامة الشرائع واجتناب الحلائل، وبين حفظ الكرامة وامتهانها، وبين النفور والسفور، وبين الزهد التام وتسوُّل التقرُّب.

والحديث يطول.

المراجع:

[1]، [2] القرآن الكريم: سورة الأحزاب، آية ٣٢، ٥٩.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
عبدالرحمن القلاوي
كاتب ومدون
كاتب ومدون في عدة مواقع ومنصات إلكترونية. مواليد محافظة البحيرة - مصر فبراير/شباط ١٩٩١م، وحاصل على بكالوريوس الإعلام من جامعة القاهرة ٢٠١٩م.
تحميل المزيد