قبل أكثر من 3 سنوات عقدت دول منظمة أوبك تحالفاً مع روسيا، بموجب ذلك التحالف تم الاتفاق على تخفيض إنتاج النفط بشكل دوري، للحفاظ على استقرار أسعار النفط وعدم انخفاضه في الأسواق العالمية، وعدم تكرار أزمة انخفاض أسعار البترول الحادة التي وقعت في عامي 2014 و2015.
بانتشار فيروس كورونا وتحوله إلى وباء، بدأت أسعار النفط في الانخفاض، واجتمعت دول منظمة أوبك مع روسيا، الجمعة الماضية، للاتفاق على خفض الإنتاج للحفاظ على استقرار أسعار النفط. وبعد أجواء مشحونة وعاصفة بين السعودية وروسيا أثناء المحادثات، انتهى الاجتماع برفض روسيا خفض إنتاجها. وبعدها بساعات أعلنت شركة أرامكو السعودية إشعال حرب أسعار النفط.
قررت أرامكو خفض أسعار النفط في الأسواق الآسيوية والأوروبية والأمريكية لمستويات غير مسبوقة، إذ انخفض سعر البرميل بمقدار 6 إلى 8 دولارات (مقدار الخفض وليس سعر البرميل).
وأعلنت عن رفع إنتاجها من النفط في أبريل/نيسان القادم لـ12 مليون برميل يومياً (إغراق للسوق)!
هذه الخطوة السعودية لا تعني سوى إعلان حرب على النفط الروسي بشكل مباشر وبطريقة تعجيزية. في محاولة لإرغام الدب الروسي القبول بخفض الإنتاج مع باقي أعضاء الأوبك. ويكفي فقط الإشارة إلى أن برميل النفط الروسي يباع في الأسواق الأوروبية بسعر أقل 2 دولار من سعر نفط خام برنت، وبعد التخفيض السعودي سيباع برميل النفط السعودي في الأسواق الأوروبية بسعر أقل 10 دولارات من سعر خام برنت.
رفضت روسيا خفض الإنتاج لأنها ترى أن المستفيد الوحيد والأكبر من الحفاظ على أسعار النفط وعدم انخفاضه هو اقتصاد الولايات المتحدة، وتحديداً شركات البترول الصخري (shale oil) الأمريكية، لأن تكلفة الحفر لاستخراج البترول والغاز الصخري تكلفة كبيرة، تستلزم أن تكون أسعار برميل البترول مرتفعة (يجب أن تتخطى حاجز الـ50 دولاراً) لتستطيع الشركات الأمريكية تغطية تكاليف الحفر وتحقيق مكاسب تجعلها تستمر في أعمال الحفر والإنتاج. يكفي الإشارة فقط إلى أن ثورة إنتاج البترول والغاز الصخري حققت للولايات المتحدة مكاسب هائلة، ولأول مرة منذ عقود تصل لمعدلات إنتاج تحقق لها الاكتفاء الذاتي من النفط والغاز.
في الوقت نفسه، فرضت أمريكا مع بداية عام 2020 عقوبات على خط غاز "نورد ستريم 2" الواصل من روسيا لألمانيا عبر بحر البلطيق. الهدف الأمريكي من العقوبات هو تقليل الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي لتقليل النفوذ الروسي داخل أوروبا. وفي الوقت نفسه فتح طريق للغاز المسال الأمريكي لدخول الأسواق الأوروبية. العقوبات تسببت في منع الشركات الأوروبية التي تمتلك تكنولوجيا إنشاء هذا النوع من خطوط الغاز في المياه من استكمال أعمالها، بمعنى آخر توقف المشروع تماماً، بعد أن قطع أكثر من 90% من أعمال الإنشاء، هذا يعني ببساطة خسائر اقتصادية ضخمة لروسيا.
نصل هنا لزاوية أوضح للمشهد.. الهدف الرئيسي لعدم خفض روسيا لإنتاجها من النفط لا يتعلق بالسعودية ودول الأوبك، وهو بالأساس معركة روسيا مع الولايات المتحدة، ومحاولة لإيلام شركات النفط الأمريكية، ودفع الولايات المتحدة للتراجع عن قرارها بالعقوبات على "نورد ستريم 2".
معركة عض الأصابع
نصل هنا إلى مشهد متشابك بين ثلاث دول: الولايات المتحدة وروسيا والسعودية، بسبب حرب أسعار النفط، التي تحقق مصلحة، وفي الوقت نفسه تسبب الألم.
الولايات المتحدة بالرغم من استفادتها من الأزمة السياسية بين روسيا والسعودية، فإن شركات النفط الأمريكية ستواجه أزمة كبيرة، خاصة أن هذه الشركات منذ بداية 2019 وهي تقترب من الإعلان عن الإفلاس (شركة وزيرفورد على سبيل المثال) ربما تستطيع هذه الشركات تحمل الانخفاض الحاد لأسعار النفط لشهور، بسبب اتباعها استراتيجية التحوط، لكن لن يستمر الأمر طويلاً.
روسيا تحقق استفادة مباشرة من الضغط على الولايات المتحدة لدفعها للتراجع عن العقوبات المفروضة على خط "نورد ستريم 2″، لكن التخفيض السعودي لأسعار النفط مع إغراق السوق يمكن أن يسبب أزمة اقتصادية مؤلمة لروسيا (الخسائر قد تصل من 100 إلى 150 مليون دولار يومياً)، مع الأخذ في الاعتبار أن صادرات النفط والغاز الروسية تمثل تقريباً 30% من إجمالي الناتج المحلي.
السعودية تحقق استفادة أيضاً، وهي استمرار محاولاتها في إنهاء وخفض ثورة إنتاج الزيت الصخري في أمريكا (حاولت السعودية في 2010 تخفيض الأسعار للحد من ثورة الإنتاج الأمريكي لكنها فشلت)، لكن في الوقت نفسه تراجع الأسعار بشكل حاد مع دولة يعتمد اقتصادها بشكل كبير على الصادرات النفطية، ستكون آثاره كارثية على السعودية، خاصة أن الأوضاع الداخلية في العائلة المالكة تبدو غير مستقرة.
إذن هي معركة عض الأصابع بين الدول الثلاث، كل طرف يريد أن يحقق أكبر مكسب مع وجود ألم متحقق من قراراته، ولكن إلى أي مدى سيتحمل كل طرف شدة الألم؟!
خالد فؤاد هو باحث بالمعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية، متخصص في العلاقات الدولية، وقضايا الشرق الأوسط.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.