أعلنت السعودية بداية مارس/آذار الحالي تعليقاً مؤقتاً للعمرة للزوار من دول مجلس التعاون الخليجي، انتشر بعد ذلك التعليق مقاطع مصورة تظهر فيها ندرة المعتمرين في الحرم المكي مع عمال يبدو من ملامحهم أنهم ينتمون للعمال البنغاليين أو الباكستانيين في المملكة، يحاول هؤلاء العمال تطهير أرضيات الحرم كإجراء احترازي لمواجهة فيروس كورونا، لاحقاً انتشرت صور أخرى لصحن الكعبة وقد أصبح خاوياً بفعل الإجراءات التي اتخذتها الحكومة السعودية لتطهير الحرم.
يهدد انتشار كورونا بتوقف الحج والعمرة، وهو مصدر مهم لإنعاش قطاع الخدمات في مكة بالتحديد، تلك المدينة التي أصبحت مع الوقت وجهةً حداثيةً للسياحة ببُعد مقدّس يتقلص يوماً بعد يوم بفعل التغيرات العمرانية السريعة التي عاشتها المدينة في العقود الماضية.
مكة، المدينة المقدسة لأكثر من مليار مسلم حول العالم، يأتيها الناس من كل فجّ عميق كل عام في موسم الحج أو العمرة الممتد طول العام والذي يبدأ في الزيادة مع دخول شهر رمضان، معرضةً أن تبقى خاوية في هذا العالم في ظل تكهنات عن إلغاء الحج خوفاً من اجتياح كورونا.
يأتي كورونا في وقت حرج تعيش فيه السعودية مرحلة انتقالية في تاريخها الحديث على عدة مستويات، فمن سطوة الصحوة الإسلامية التي كانت في السابق تقف ضد قرارات منع العمرة والحج رغم خطورة الأوبئة التي ألمّت بالعالم في الفترات السابقة، أيضاً تمر السعودية بمنعطفات سياسية كبيرة في الوقت الحالي كان آخرها اعتقال ولي العهد السابق محمد بن نايف وأمراء آخرين من الأسرة الحاكمة بتهمة التخطيط لانقلاب على ولي العهد الحالي محمد بن سلمان.
تنظم المملكة اليوم في عهد ما بعد الصحوة الإسلامية مهرجانات ترفيهية وغنائية وتحاول أن تظهر بوجهة حداثية في ظل نظام ملكي ينتمي للعصور الوسطى. على المستوى الاقتصادي يأتي كورونا في مرحلة انتقالية تريد فيها السعودية تعظيم عوائد قطاع السياحة الدينية في مكة في ظل استراتيجية المملكة للتنويع الاقتصادي المسماة رؤية 2030. تريد السعودية أن تستقبل 30 مليون حاج بحلول 2030، ومن أجل ذلك فهي تقوم بتوسعات مستمرة في الحرم المكي.
ليست المرة الأولى
قد يظن البعض أن مكة لم تعرف انتشار الأوبئة قبل ذلك لكن ذلك غير صحيح، فطالما كان الحج فرصة ذهبية لانتشار الأوبئة في العصور القديمة والحديثة للطبيعة الفريدة للحج والتي تجعل البشر يأتون من كل بقاع الدنيا إليه. طوال تاريخ المدينة الطويل تعرضت لجوائح عدة عطّلت الحج فيها، أو أثرت في استقبالها للحجيج. ساهمت الأوبئة وانعدام الأمن والثورات السياسية والتغيرات الإقليمية طوال تاريخ المدينة في توقف الحج والعمرة أكثر من مرة. يمكن أن يكون التوقف الأشهر للحج هو السنوات العشر التي سَرَق فيها القرامطة الحجر الأسود ووضعوه في البحرين. أو حين ألمّت اضطرابات سياسية أخرى في العصر الحديث بالمملكة أشهرها حادثة اقتحام الحرم من جهيمان العتيبي وجماعته.
أما فيما يتعلق بالأوبئة فنادراً ما كان الحج يتوقف بسببها، بل يستمر لعدم وجود سلطة مركزية تمنع الحجاج من الوصول لمكة في تلك الفترة. لكن ذلك جعل الحج موسماً كبيراً لانتشار الأوبئة، ذكر ابن كثير الدمشقي في كتابه "البداية والنهاية" أن داءً يدعى الماشري -يرجح أن يكون الطاعون- انتشر في مكة في عام 357 هجرية، 968 ميلادية، وأدى المرض إلى موت أعداد كثيرة، كما نفقت جِمال الحجيج في الطريق عطشاً، ولم يصل إلا أعداد قليلة إلى مكة.
أما في التاريخ الحديث فمكة هي إحدى المدن التي تتعرض باستمرار للأوبئة؛ لأنها تستقبل حجاجاً من جميع أنحاء العالم؛ ولأن الطب الحديث لم يكن قد تطور بالقدر الكافي لإجراءات الحجر الصحي وغير ذلك.
ظهرت الكوليرا لأول مرة في مكة عام 1831، ومنذ ذلك التاريخ مات الآلاف في مواسم الحج بين عامي 1831 حتى 1912 نتيجة الكوليرا، بل امتد تأثيرها لباقي مدن الحجاز في تلك الفترة أهمها جدة. تأثرت مكة وموقعها الاقتصادي بشدة بفعل تلك الأمراض، خاصة أن الحجاز كانت تعتمد بشكل كبير على موسم الحج في تسهيل التواصل التجاري مع العالم في تلك الفترة. كان الحج هو المصدر الأهم للدخل للسعودية قبل اكتشاف البترول.
حتى في الماضي القريب ومع تطور تقنيات الحجر الصحي كانت مواسم الحج عرضة لتغييرات وقيود كثيرة على الحجاج بفعل انتشار الأمراض، مع سارس أعلنت الحكومة السعودية قيوداً على استقبال الحجاج من الدول المصابة، وحينما انتشرت إنفلونزا الخنازير في 2009 أعلنت السعودية منع دخول كبار السن والأطفال للحج والكشف على الحجاج القادمين إليها.
كيف ستتأثر مكة؟
حينما انتشر سارس وإنفلونزا الخنازير تأثرت اقتصاديات الحج في مكة، فبحسب غرفة مكة للتجارة والصناعة فإن خسائر الشركات بسبب إنفلونزا الخنازير بـ40% من حجم أعمال الشركات العاملة في مكة المكرمة. ومن المرجح أن تتأثر اقتصاديات الحج والعمرة في المملكة العربية السعودية بفعل انتشار كورونا، لكن يبدو من المستحيل تقييم حجم هذا الضرر، خاصة في ظل ندرة المعلومات والتشكيك في البيانات الرسمية التي تقولها الحكومة السعودية عن عوائد الحج والعمرة على مدار العام.
يقدر عدد الحجاج الذين يزورون مكة في موسم الحج بأكثر من مليوني حاج سنوياً، بالإضافة إلى ما يقرب من 6 ملايين معتمر على مدار العام من خارج المملكة، و12 مليون معتمر آخرين من داخل المملكة غالبهم من غير السعوديين. نجحت الحكومة السعودية في العقود الأخيرة في جعل صناعة السياحة الدينية مستمرة طول العام بفضل التوسعات الجديدة بالحرم المكي. تقدر الحكومة السعودية عائدات الحج بـ60% من الإيرادات السياحية للمملكة والمقدرة بـ22 مليار دولار عام 2017، أي ما يقرب من 14 مليار دولار. لكن ذلك الرقم يعتقد على نطاق واسع أنه أقل من العوائد الاقتصادية المباشرة لموسم الحج على المملكة، خاصة في قطاع السكن والخدمات الأخرى مثل المطاعم والنقل والصناعات اليدوية والتي تنشط طول العام في مكة بسبب موسم الحج. تلك العوائد أيضاً لا يدخل في حسابها تكاليف أخرى أهمها تكلفة تأشيرة الحج والعمرة التي تستفيد منها القنصليات السعودية والمقدرة بحوالي 300 ريال سعودي لتأشيرة العمرة أو الحج، ما يعني أن الحكومة السعودية تستفيد من تلك التأشيرات بـ3.6 مليار ريال سعودي، أي ما يقرب من مليار دولار سنوياً من تلك التأشيرات وحدها.
يوفر قطاع السياحة فرص عمل تقدر بـ 882.9 ألف فرصة عمل، وبما يمثل نسبة 7.7% من إجمالي العاملين بالمملكة، ويستحوذ السعوديون على نسبة 27.8% من إجمالي فرص العمل بقطاع السياحة. يعاد ضخ معظم تلك الأموال في اقتصاد المدينة المنتعش بفعل قطاع العقارات والخدمات الهائل في المدينة والتي تعتمد عليها مكة بشكل أساسي، تشير التقديرات إلى أن حجم مشاركة قطاع السياحة في الناتج المحلي السعودي تقدر بـ70 مليار دولار.
يرتبط قطاع السياحة الدينية في السعودية بقطاع النقل الجوي، الذي ينفق فيه الحجاج قرابة 2.3 مليار دولار سنوياً، أيضاً قطاع تجارة التجزئة في مكة ذو الحجم الهائل، وأيضاً قطاعات الفندقة والسكن والنقل والمواصلات داخل المدينة والتي تسهم بشكل كبير في جعل مكة واحدةً من أكثر مدن العالم حيوية طوال العام.
يظهر تأثير كورونا منذ بداية الإعلان على انتشاره في العالم على سوق الأسهم السعودية التي تضع أمامنا صورة جلية عن القطاعات الأكثر تأثراً بفعل كورونا، فنجد أن أسهم شركات الطيران والسياحة وتجارة التجزئة قد هبطت بشكل كبير في ظل المخاوف من تأثير الفيروس على السياحة في السعودية.
ما يعزز من الأثر السلبي للفيروس على منطقة مكة والسعودية بشكل عام هو تباطؤ النمو العام الذي يمر به الاقتصاد السعودي في الوقت الحالي بفعل الهبوط الحاد في أسعار البترول -المورد الأهم للمملكة في الوقت الحالي- فخام برنت فقد ما يقرب من 50% من قيمته منذ بدء انتشار الفيروس ليتوقف عند 33 دولاراً للبرميل في ظل تعثر السعودية وروسيا في خفض الإنتاج للتأقلم مع تراجع الطلب الصيني. أيضاً يشهد القطاع غير النفطي في المملكة تباطؤاً كبيراً في الفترة السابقة، حيث سجل 52 نقطة على مؤشر شركة إي إتش إس ماركت، الذي يقيس نشاط القطاع الخاص غير النفطي في معظم دول العالم.
يبدو إذاً أن تأثير كورونا على مكة في حين استمر الوباء في الانتشار سيكون كبيراً جداً، كما أسلفنا لا يمكن تقدير الخسائر بشكل دقيق لكن إذا اعتمدنا حتى على البيانات الرسمية للحكومة السعودية فإن الخسائر ستكون هائلة. لكن ما قد يمثل أملاً كبيراً لمسلمي والحكومة السعودية بالطبع أن موسم العمرة القادم في رمضان وموسم الحج هو في الصيف، حيث من المتوقع أن ينحسر فيروس الكورونا مع ارتفاع درجات الحرارة بحلول الصيف.
طيلة التاريخ المعاصر لم تتوقف حركة البيع والشراء في مكة، فالشعيرة الأهم بالنسبة للمسلمين في العالم كان فيها "منافع لهم" منذ فرض الحج، وحتى قبل الإسلام. مكة اليوم هي من أكثر مدن العالم حيوية يفسّر ذلك ارتفاع أسعار العقارات فيها والتي تصل لمستويات خيالية مقارنة بمدن كبرى في العالم مثل نيويورك ولاس فيغاس. أبراج شاهقة وفنادق عالمية اليوم تحيط بالحرم المكي في إعلان واضح عن التحول الذي عاشته مكة في العقود الأخير، ذلك التحول من المقدس إلى الدنيوي من اختلاط الكعبة بصور الأبراج الحديثة والفنادق وسلاسل المطاعم العالمية. أصبحت مكة بتعبير العمراني الأمريكي الشهير مايك ديفيس "مدينة للطوباوية الرأسمالية تزخر بأنماط استهلاك رأسمالية تختلط بروائح المقدس الذي يتلاشى يوماً بعد يوم بفعل تسليع كل شيء في الحج، بداية من التأشيرة حتى خدمة الحجاج".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.