بعد مقاطعة إثيوبيا الجولة الأخيرة من مفاوضات واشنطن بشأن سد النهضة، اشتعلت معركة بيانات وتصريحات رسمية بين القاهرة وأديس أبابا وواشنطن. وبدأت مرحلة جديدة ومختلفة تماماً في مواقف أطراف تلك القضية وتحرّكاتها. مرحلة انكشاف المواقف والتعامل المباشر الصريح، ليس فقط في الخطابين، الرسمي والإعلامي، بل أيضاً على مستوى القرارات والتحرّكات العملية. وما كان ضرباً من التكهن أو استنتاجاً لما بين السطور صار واقعاً يعلن عن نفسه، وتؤكده مؤشرات علنية رسمية.
بدأ انكشاف المواقف التي كانت مخفية بتأكيد أديس أبابا أن "أي قوة لن تستطيع وقف بناء السد"، وأنها "تقيم سدّاً على أراضيها وتحت سيادتها الكاملة، ولا ينبغي تدخل الولايات المتحدة أو دولة أخرى في تحديد مصلحتها". ودعمت إثيوبيا هذه المواقف المبدئية، بإعلان الشروع في تخزين حوالي خمسة مليارات متر مكعّب من سعة السد مطلع يوليو/ تموز المقبل. ولم تكتف إثيوبيا بذلك، فقد شنت حملة دبلوماسية استباقية لإجهاض أي تحرّك مصري. وباشرت اتصالات دبلوماسية واسعة، أفريقياً وأوروبياً، لتوضيح الموقف الإثيوبي.
على التوازي، وفي تصرف غير مسبوق، رفضت السودان الانضمام إلى بيان وزراء الخارجية العرب الذي أيد الموقف المصري في قضية سد النهضة.. وليست غرابة موقف الخرطوم في رفض تأييد القاهرة ببيان عربي رسمي، بل لأن المساندة العربية كانت لمصر والسودان معاً، كما كان النص الأصلي للبيان، حسبما عرضته بعثة مصر في الجامعة على نظيرتها السودانية قبل طرحه على المجلس الوزاري العربي. وكانت المفاجأة رفض مندوب الخرطوم في الجامعة إدراج اسم بلاده، والتحفظ على البيان ككل. بل وصل حرص الخرطوم على التنصّل من البيان، إلى حد أنها أعلنت رفضها أي دور لجامعة الدول العربية، واعتبرته مدعاةً لمواجهة عربية أفريقية.
تمثل الرد المصري على انكشاف موقفي أديس أبابا والخرطوم بمزيد من البيانات والتصريحات، من دون إشارات أو دلائل على تحرّك عملي أو توجه جديد في إدارة مصر الملف في ضوء مستجدات الموقفين، الإثيوبي والسوداني. باستثناء الاجتماع الموسع الذي ضم كبار قيادات القوات المسلحة المصرية، بعد ساعات قليلة من اتصال هاتفي جرى بين الرئيس الأميركي ترامب ورأس السلطة في مصر، وإن تجنّبت القاهرة أي إشارة إلى ارتباط الاتصال الهاتفي ثم الاجتماع بقضية السد.
وهكذا، بدأت تتكشف تباعاً المواقف الحقيقية لأطراف الأزمة، ربما باستثناء الموقف الأميركي، وهو جدير بقراءة مستقلة، أخذا في الاعتبار أن واشنطن ليست طرفاً أصيلاً في القضية، علناً على الأقل.
المعنى المهم في تلك المستجدات أن مصر وإثيوبيا والسودان لم تعد تملك الاستمرار في سياسة التغاضي والتلاعب والمناورة. وبحكم ما فرضه تقدّم العمل في مشروع السد، أصبحت الدول الثلاث مضطرة إلى "اللعب على المكشوف". ويعني ذلك دلالة أخرى شديدة الأهمية، أن أي تحرّك أو موقف من أيٍّ من الدول الثلاث، يجسّد وبدقة حقيقة قدراتها وتقديراتها. حيث تتجه تطورات الأزمة سريعاً نحو معادلةٍ صفريةٍ لا صفقة توافقية. خصوصاً أن ذلك التحول تم بشكل مفاجئ، أربك حسابات كل الأطراف، فحتى ما قبل توقف مفاوضات واشنطن بساعات، كانت القاهرة متفائلة بتوقيع اتفاق، على عكس أديس أبابا التي كانت تعمل لإطالة أمد التفاوض غير المجدي إلى أن يكتمل مشروع السد. أما الخرطوم فكان رهانها التموضع في مساحةٍ رماديةٍ مُبهمة بين مصر وإثيوبيا، ولم تتوقع أنها ستضطر إلى الوقوف مع أحد الطرفين أو ضده، بوضوح وفجاجة، كما فعلت في جامعة الدول العربية. هكذا تسبب سد النهضة، حتى قبل اكتماله، في تعرية المواقف وكشف السياسات، وقطع على الدول الثلاث خط الرجوع أو الاستدراك.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.