جرى التقليد تاريخياً على أن ثمة منطقتين خطرتين تقع فيهما السياسة الخارجية الروسية بين الحين والآخر.
تحل منطقة الخطر الأولى عندما تكون روسيا في غاية ضعفها والغرب يتجاهل مصالحها الوطنية باعتبارها ليست ذات وزنٍ أو صلة بها. وقد استمر ذلك طيلة العقدين الأولين من عمر روسيا الاتحادية [بعد انهيار الاتحاد السوفييتي 1991]. إذ بدأ التجاهل مع حرب كوسوفو، والتوسع الشرقي لحلف الناتو، ثم قرار الولايات المتحدة بالانسحاب من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية (ABMT)، وليس نهايةً بقرار الإطاحة بزعيم ليبيا السابق معمر القذافي.
وأبدت الإدارات الأمريكية المتعاقبة، بقيادة بيل كلينتون وجورج بوش الابن وباراك أوباما، اهتماماً بروسيا لكنهم جميعاً نبذوها بوصفها دولةً فقيرة تكافح من أجل البقاء واستيعاب حقيقة فقدان الإمبراطورية السوفييتية. وسادت تهويدة البيت الأبيض الدائمة في تعاملها معهم: "لقد سمعنا رأيكم وما تقولونه، لكننا سنفعل ما نريد على أي حال".
ومع ذلك، فقد انتهت الاستثنائية الغربية مع التدخلات الروسية في أوكرانيا عام 2014، في القرم وسوريا.
بيد أن منطقة الخطر الثانية تجيء بنُذرها عندما تبالغ موسكو في تقدير قدرتها على فرض إرادتها على الدول الأجنبية. وعندما تُظهر أيضاً الغطرسة التي كانت هي أصلاً ضحية لها في يوم من الأيام. وهذا ما بدأ يحدث الآن في سوريا.
والبندول لا يمكث طويلاً في أي منطقة من المنطقتين.
إنجازات عظيمة
أنهى محللو السياسة الخارجية الروس الذين يتمتعون بحماية، وإنصات، الكرملين العقدَ الماضي برؤى تُعلي من شأن ما حققته بلادهم.
ولدينا مثال جيد يُبرز ذلك الرأي، وهو تحليل سيرجي كاراجانوف الذي نُشر في صحيفة Rossiyskaya Gazeta الحكومية الروسية. إذ سرد كاراجانوف "الإنجازات العظيمة" التي تحققت خلال العقد الماضي: الحد من توسع التحالفات الغربية؛ التدخل في سوريا الذي أوقف سلسلة من الثورات الملونة المصطنعة التي دمرت مناطق بأكملها (وهو يعني بها ثورات الربيع العربي)؛ حيازة مواقع تجارية ذات أهمية كبيرة في الشرق الأوسط؛ تنمية العلاقات مع الصين بوصفها حليفاً؛ تغيير ميزان القوى مع أوروبا ليصبح في صالح روسيا.
حتى إن ناطقين أقل تشدداً باسم السياسة الخارجية الروسية، مثل ديمتري ترينين، مدير مركز كارنيغي في موسكو، كتب في تغريدة مؤخراً: "لا تركيا ولا موسكو لديهما رغبة في اندلاع قتال مع بعضهما في سوريا أو بشأنها. الخطاب الرسمي في موسكو يدور بالأساس حول منع نشوب صراع. ومع ذلك، فإن الجيش الروسي ربما رأى أن القوات التركية يجب أن تتلقى رسالة قوية بأنها قد ذهبت بعيداً عن الحد المسموح".
كانت "الرسالة القوية" التي أشار إليها ترينين هجوماً على رتلٍ عسكري تركي أسفر عن مقتل 34 جندياً على الأقل، وإصابة آخرين في إدلب.
ومع ذلك، فإن الضربة التي تعرضت لها القافلة التركية، والتي أخذ القادة العسكريون الروس يلقون باللوم فيها على تركيا، سواءً بسبب قصفها المدفعي المستمر أو لعدم إخبارهم مقدماً بوجهة القوات التركية، انطوت على قراءة خاطئة واضحة لكل من عقلية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ولوضعه السياسي الحرج في داخل تركيا.
ازدهار العلاقة بين الطرفين
ودعونا نتناول الأمر من جهة الوضع السياسي الداخلي أولاً. فمنذ البداية، تأسست علاقة الحب بين أردوغان وفلاديمير بوتين، والتي بدأت عندما أرسلت إليه موسكو مُرادَه [منظومات الدفاع الجوي] الذي رفضت واشنطن أن تمنحه إياه بعد الانقلاب الفاشل في يوليو/تموز 2016، لتكون ذات حدودٍ صارمة.
مشى أردوغان متحسساً خطواته مع موسكو، خطواتٌ شملت إطلاق خط أنابيب "ترك ستريم" الذي ينقل الغاز الطبيعي من روسيا إلى جنوب أوروبا متجاوزاً أوكرانيا، وشراء منظومة الدفاع الجوي الروسية من طراز "إس 400" على حساب خسارة مقاتلات "إف 35" الشبحية الأمريكية، وتقدّم في تحركاته تلك ما دامت تعطي تركيا نفوذاً أمام واشنطن أو تسمح له بفعل المزيد في سوريا أكثر مما كان ممكناً عندما كان يلتزم الخط الغربي ورؤيته هناك.
ومع ذلك، فإن علاقة تركيا المزدهرة بروسيا في سوريا انطوت على مقايضات مزعجة إلى حد ما، إذ تخلى كل جانب عن حليف له، روسيا عن حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD) وأنقرة عن قوات المعارضة السورية في شرق حلب.
لكن التفاهمات الناجمة عن تلك العلاقة دائماً ما كانت مرهونة بالوقت لسببٍ ديموغرافي [سكاني] واضح للغاية. إذ مع كل انتصار حققه النظام السوري، تضخم عدد اللاجئين السوريين في إدلب. ويوجد حالياً نحو 4 ملايين منهم محاصرون في مساحة من الأرض بحجم مقاطعة سومرست في إنجلترا، علاوةً على أكثر من 900 ألف منهم فرّوا إلى تركيا. ويعد هذا أكبر حركة نزوح للاجئين من منطقة واحدة منذ بداية الحرب، ومع ذلك، فقد مرّت إلى حد كبير دون أن يلاحظها أحد في أوروبا حتى الآن.
أردوغان ينحصر بين خيارات كلها صعبة
مع وصول أعداد اللاجئين إلى 3.6 مليون لاجئ سوري مسجل في تركيا، وموجة صعودٍ للمعارضة الكمالية التي فرضت سيطرتها على المدينتين الرئيستين إسطنبول وأنقرة في الانتخابات الأخيرة وأعربت عن عداء صريح للاجئين، إلى جانب الانقسامات التي أخذت تنتاب القاعدة الإسلاميين المحافظين الخاصة بحزبه، انحصر أردوغان في زاوية ضيقة.
ولما لم يعد بإمكانه السماح لكل من بشار الأسد وبوتين بدفع موجة نزوح أخرى من اللاجئين صوب حدوده، كان على أردوغان أن يتصرف. فقد بات من الواضح أن ما يدفع بشار اللاجئين إليه سرعان ما سيتحول إلى تهديد سياسي وجودي لأردوغان نفسه كرئيس.
ثانياً، فيما يتعلق بعقلية أردوغان، فإن أردوغان ينظر إلى مكانته في تاريخ تركيا تماماً كما ينظر بوتين إلى موضعه في تاريخ المسيحية الأرثوذكسية الروسية، أو -وإن من جهة أخرى- كما ينظر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى ما يحققه ومكانته في التاريخ اليهودي.
فأيٌّ من هؤلاء الرجال لا يعتبر قيادته لبلاده مؤقتة، أو أمراً يخضع بالكامل للإرادة الشعبية في انتخابات حرة. بل كل واحد منهم يعتقد في نفسه أنه رجل اختارته الأقدار، عينه الرب ليس فقط لتحقيق تطلعاته الخاصة وإنما تطلعات أمته أيضاً.
وهكذا فاجأ التقدم العسكري التركي خلال عطلة نهاية الأسبوع الروس، ليصبح المعلقون الروس بعدها أكثر تردداً في مقابلاتهم مع وسائل الإعلام الناطقة بالعربية.
حقق القصف الذي وجهته الطائرات التركية المسيرة وقوات المدفعية لجيش الأسد ثلاثة أهداف رئيسية: إغلاق منشأة كيماوية عسكرية كان ينتج النظام فيها غاز الكلور السام، وإخراج مطارين عسكريين من الخدمة وأحدهما مطار النيرب غرب حلب، إضافة إلى تدمير عدد كبير من الدبابات وناقلات الجنود المدرعة والذخائر.
برهنت الفعالية القتالية للقوات التركية في إدلب، خاصة أداء طائراتها المسيرة، على صدق تحليل يوسي كوهين، مدير جهاز الموساد الإسرائيلي، الذي نقلت أخباراً بشأنه العام الماضي، وما توقعه خلال اجتماع سري في الرياض. فقد قال كوهين للمجتمعين آنذاك إنه في حين يمكن احتواء إيران عسكرياً، فإن تركيا قدراتها أكبر بكثير: "القوة الإيرانية هشة. التهديد الحقيقي يأتي من تركيا"، وفقاً لشهود حضروا الاجتماع.
هل هي نهاية العلاقة بين الطرفين؟
النتيجة كانت انهيار العلاقة بين أردوغان وبوتين. فمكالمتهم الهاتفية نهاية ذلك الأسبوع كانت صراخاً متبادلاً. وأخبر أردوغان نظيره الروسي بأن عليه تنحية قواته عن طريق القوات التركية، في حين أخبره بوتين بأن عليه إخراج قواته من إدلب. كانت هذه المرة الأولى التي يستخدم فيها أي من الرجلين هذا النوع من اللغة والخطاب تجاه أحدهما الآخر، وهي اللغة التي عادة ما يحتفظ كل منهما بها لمحادثة رؤساء الدول الغربيين.
وسرعان ما زالت عن الإعلام التركي رهبته من المسؤولين الروس وانتهى النفوذ الروسي على كبار المسؤولين الأتراك أيضاً. وخلال معظم السنوات القليلة الماضية، اشتهرت روسيا بالوفاء بوعودها. لكن كل ذلك ذهب أدراج الرياح.
وبدأ واقع جديد في أنقرة حول استعداد روسيا للوفاء بوعودها التي قطعتها لتركيا في سوتشي، وهذا يعني أن أردوغان سيبرم صفقة أصعب حين يذهب إلى موسكو.
غير أنه من المستحيل التنبؤ بما سيحققه بوتين أو أردوغان. إذ إن خطاب موسكو الرسمي يدور حول منع نشوب المزيد من الصراعات، إلا أنها تفعل العكس تماماً على الأرض في إدلب.
لكن العنصر الجديد في هذه الحسابات هو أن هناك قوتين إقليميتين على طرفي الصراع، لديهما الرغبة والقدرة على استخدام القوة. فلم تعد روسيا هي الجيش الأجنبي الوحيد في شمال سوريا المستعد للقتال، وهنا ما زلت أستبعد وجوداً لقوات أمريكية في شمال شرق سوريا.
نهاية الصراع لا تزال بعيدة
لا تزال الخطوط الأمامية في سوريا متقلبة إلى حد كبير. ونهاية هذا الصراع لا تزال بعيدة، بغضّ النظر عن عدد المرات التي أعلن فيها بوتين أن "المهمة أنجزت". فلا يزال بإمكان كل من روسيا وتركيا إلحاق الضرر بقوات بعضهما، وفي الوقت نفسه لا يصطدم أحدهما بالآخر بشكل مباشر.
بالنسبة لأردوغان، ارتفعت المخاطر مجدداً ومعها ارتفعت لهجة خطابه. إذ قال يوم الأحد الأول من مارس/آذار: "تركيا تخوض قتالاً تاريخياً وحاسماً من أجل حاضرها ومستقبلها. ونواصل العمل بلا كلل ليل نهار لتحقيق النصر الذي سيصون مصالح بلدنا وأمتنا الذي سيأتي بنتائج مهمة مماثلة لتلك التي شهدناها قبل 100 عام".
وأضاف: "ندرك أننا إذا تهربنا من القتال في هذه المنطقة الجغرافية التي كانت عرضة للاحتلال والقمع عبر التاريخ وأننا إذا لم نتمسك بوحدتنا وتضامننا، فسنضطر إلى دفع ثمن أكبر بكثير".
وليس ذلك سوى إشارة إلى هزيمة أتاتورك للحلفاء في غاليبولي قبل قرن من الزمان، حين كانت قوى الحلفاء على وشك تمزيق تركيا في حال فوزها. ومهدت هزيمتهم الطريق لصعود أتاتورك وتجدد القومية التركية.
النظام الجديد
يفكر أردوغان الآن في حملته في سوريا بالطريقة نفسها، حيث يواجه عدداً من الجيوش الأجنبية.
وإذا فاز بهذه الجولة، فسيؤسس بهذا النصر نفوذاً أكبر لتركيا لا على طاولة النقاش مع روسيا فحسب، ولكن في المنطقة أيضاً. ودور تركيا القوي في سوريا سيؤثر أيضاً على توازن القوى في العالم العربي السني الذي يواجه التوسع الإيراني المفرط في الأراضي العربية.
وهذا هو السبب وراء وصف إسرائيل لتركيا، حليفتها العسكرية السابقة التي باعت لها طائرات مسيرة، بأنها تهديد عسكري أكبر من إيران، بعد أن أصبحت تركيا تصنع طائراتها المسيرة بنفسها، وهو السبب أيضاً وراء شماتة مواقع التواصل الاجتماعي في السعودية والإمارات في أعداد الإصابات التركية في إدلب.
إن أردوغان يخوض مجازفة كبيرة. ويتعين على بوتين، أيضاً، أن يحسب تكاليف "نجاحه" في سوريا، التي تتنامى عاماً بعد عام، في أرض ستتطلب إعادة إعمارها عقود.
لم تعمل القوة العسكرية الروسية في سوريا إلا في غياب قوة عسكرية معارضة حقيقية يمكنها إسقاط طائراتها. والآن وقد وُجدت، فسيحدد هذا القتال الكثير.
فمرحباً بكم في النظام العالمي الجديد "المتعدد الأطراف" في عصر ما بعد الهيمنة الغربية، الذي يتسم بعدم الاستقرار تماماً مثلما كان النظام الذي حكمه الغرب.
– هذا الموضوع مترجم من موقع Middle East Eye البريطاني.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.