في السادس عشر من يوليو/تموز 2019، اختار برلمان إيران 3 أعضاء جدد لمجلس صيانة الدستور، لينضموا إلى العمل الجديد، بعد إقرار المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية علي خامنئي لذلك، والثلاثة جاءوا من خلفية قانونية وهم: محمد دهقان عضو البرلمان السابق، والذي عمل أيضاً رئيساً للحملة الانتخابية للمرشح الرئاسي محمد باقر قاليباف في انتخابات 2017 أمام الرئيس الحالي حسن روحاني، وعمدة طهران في 2005؛ ومحمد حسين صادقي مقدم وهادي طحان نظيف عضوا مجلس الشورى الإيراني.
هذه الشخصيات الثلاث المحسوبة على التيار المحافظ في ايران، دخلت مجلس صيانة الدستور، في حملة من التغييرات الجوهرية والجذرية التي طالت المجلس قبيل شهور قليلة من الانتخابات البرلمانية التي جرت بالبلاد في فبراير/شباط 2020 ، وهو ما كان مؤشراً واضحاً من البداية على توجُّه السلطة الإيرانية نحو تحجيم تطلعات التيار الإصلاحي الذي يقف على رأسه الرئيس الإيراني حسن روحاني، في الانتخابات البرلمانية؛ بل نسف كل مساعي روحاني للاعتماد على البرلمان في الفترة القليلة المتبقية له من حكمه والتي لا تتعدى 18 شهراً فقط.
في المقابل سوف نرى أن البرلمان السابق الذي تشكَّل بعد انتخابات جرت في عام 2016، كان داعماً قوياً لروحاني، خاصة أن تشكيلته، التي ضمَّت تحالفاً من الإصلاحيين والمعتدلين، صنعت أغلبية في مواجهة المحافظين، للمرة الأولى منذ 2004، وهو ما سمح لروحاني بتبني خطاب داعٍ إلى ضرورة الانفتاح المشروط مع الغرب، عكس الرؤية المحافظة الداعية إلى قطيعة كاملة مع الغرب وأمريكا.
لكن ما علاقة مجلس صيانة الدستور بالانتخابات البرلمانية وتحجيم التيار الإصلاحي في البلاد؟ هذا المجلس يتكون من 12 عضواً، يأتي إقرار الموافقة عليهم من جانب المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، ويتشكل من 6 أعضاء دينيين، أي فقهاء دين، بالإضافة إلى 6 أعضاء من القامات القانونية، ويتولى المجلس، وفقاً للدستور الإيراني، مهام مراقبة الانتخابات البرلمانية في البلاد، والموافقة على مرشحي الانتخابات واعتمادهم ورفض من لا يروق له، ثم فحص كل القوانين التي تصدر عن البرلمان ومطابقتها بالشريعة الإسلامية، وله الحق في رفض القوانين التي يصدرها البرلمان طالما يرى مخالفتها للشرع الإسلامي.
المقدمة السابقة تكشف وتشرح باستفاضة، الإجراءات التي طالت العملية الانتخابية بدءاً من استبعاد ما لا يقل عن 14 ألف شخص رغبوا في الترشح للانتخابات البرلمانية، منهم أعضاء كانوا بالبرلمان المنتهية ولايته، ثم سيطرة التيار المحافظ على البرلمان، حسب البيانات الرسمية التي صدرت حتى الآن من جانب وزير الداخلية الإيراني والمتحدث الرسمي باسم هيئة الانتخابات البرلمانية إسماعيل موسوي والتي كشفت تصريحاتهما أن المرحلة الأولى من الانتخابات، المؤدية إلى البرلمان الـ11 في تاريخ الجمهورية الإسلامية، كشفت سيطرة شبه كاملة للتيار المحافظ، حيث حصل على 221 مقعداً، في حين حصل التيار الإصلاحي على 16 مقعداً وحصل المستقلون على 34 مقعداً.
أما المرحلة الثانية من الانتخابات البرلمانية والمرتقبة في أبريل/نيسان المقبل، فسوف يتم التنافس على بقية المقاعد من البرلمان، البالغ عدد مقاعده الكاملة 290 مقعداً، حيث سيتنافس الجميع على المقاعد الـ19 الباقية.
ملاحظة، لها حيثياتها، كشفها حجم المشاركة في الانتخابات الحالية، وهي أن نسبة المشاركين في الاقتراع بلغوا 40 في المئة أو يزيد قليلاً، من مجموع الأصوات بالبلاد كافة، حيث بلغ عدد الناخبين 24 مليون مواطن، من مجموع 58 مليون لهم حق الاقتراع، وهي أقل نسبة مشاركة على الإطلاق في الانتخابات البرلمانية منذ تأسيس الجمهورية الإيرانية في نهاية سبعينيات القرن الماضي.
لعزوف المقترعين عن المشاركة دوافع جوهرية جديرة بالطرح، منها على سبيل المثال:
– ما سبق الانتخابات من تفجُّر حالة كبيرة من السخط، تبعتها تظاهرات لا تخطئها العين، في محافظات كثيرة داخل إيران، رفضاً للأوضاع الاقتصادية المتدهورة منذ نهاية 2016، وعدم قدرة السلطات على وقف انهيار العملة الإيرانية في مواجهة الدولار الأمريكي.
– إقرار الميزانية الجديدة في إيران وتضمُّنها تقليص دعم الوقود وانخفاض الرواتب مقارنة بحالة التضخم الكبيرة بالبلاد، وانهيار عشرات الشركات التي تعمل في السياحة وإفلاسها، وهو ما زاد من شريحة العاطلين، وفشل روحاني في تقديم إجابات واضحة حول مستقبل الانهيار المستمر للاقتصاد ومدى قدرته على مواجهة ذلك.
– فقدان روحاني للمصداقية لدى قطاعات كبيرة من الشارع الإيراني بعد وعود كثيرة أطلقها عقب وصوله للسلطات، ونجاحه في إقرار الاتفاق النووي في 2015 وما تبعه من اشتراطات أووربية بضخ 120 مليار دولار كاستثمارات في البلاد، لكن كل ذلك تبخر بعد مجيء دونالد ترامب للسلطة وانسحابه من الاتفاق النووي وبدء فرض عقوبات ضخمة على الاقتصاد الإيراني، فبات روحاني كـ"العريان" أمام الداخل الإيراني، غير قادر على تبنِّي طرحه السابق الذي كان يروج له من ضرورة فتح باب للتفاوض مع الغرب وأمريكا، وفي الوقت نفسه غير قادر على مواجهة حجم الضغوط الأمريكية الكبيرة على الاقتصاد المحلي.
– ما حدث من تبعات مقتل قاسم سليماني، وإدراك جزء كبير من الداخل الإيراني أن المعركة الأساسية للجمهورية الإسلامية ليست في التمدد خارجياً بالديموغرافية الشيعية حولها، ولكن في محاربة الفساد الداخلي وتقليص الإنفاق الخارجي وضخّه لعلاج قصور الاقتصاد.
نتائج البرلمان الحالي تكشف أن مجلس الشورى سيكون بلا إصلاحيين. والمفارقة أن مجلس صيانة الدستور، ولتوغل سلطاته في الداخل الإيراني وتوظيف صلاحياته لدعم الصوت المحافظ المتشدد في البلاد، استبعد 90 عضو كانوا بالبرلمان المنتهية فترته، من الترشح مرة أخرى، حتى إن روحاني لم يتحمل ما حدث وقال في تصريح منتقداً ما يحدث، إن ذلك تعيين وليس انتخابات!
ما حدث في إدارة أزمة الوقود أواخر 2019، وتدخلات المرشد الأعلى للثورة الإيرانية في اختصاصات البرلمان الإيراني، كانا دافعاً قوياً آخر لعزوف رموز إصلاحية كبيرة عن الترشح في الانتخابات؛ لإدراكهم عدم جدوى البرلمان في ممارسة مهامه التشريعية والرقابية.
فالمرشد الأعلى قام بتشكيل لجنة جديدة منوطة بها إدارة الملف الاقتصادي في البلاد، واتخذت الهيئة الجديدة التي جاءت تحت اسم "المجلس الأعلى للتنسيق الاقتصادي" قرار رفع أسعار الوقود في أواخر 2019، دون علم البرلمان الإيراني؛ وهو ما تسبب في المظاهرات الحاشدة التي شهدتها البلاد.
إذن أنت أمام برلمان بلا أي قيمة سياسية داخل البلاد، إلا استكمال الديكور الديمقراطي المجوَّف، والمنسوفة صلاحياته من جانب السلطة الدينية؛ ومن ثم فالنسخة الجديدة سيغلب عليها طابع -إن جاز أن يطلق عليه- الانتقام من مشروع ورموز وتيار روحاني، وسيذهب البرلمان الجديد إلى تحميل روحاني بكل بساطة، كل الإخفاقات التي طالت إيران داخلياً وخارجياً.
روحاني يواجه ترامب في الانتخابات البرلمانية
يبقي التساؤل هنا: مَن الفائز الحقيقي في الانتخابات البرلمانية الإيرانية الحالية، التي ستنتهي كاملةً في أبريل/نيسان المقبل؟ في تقديري، إن الإدارة الأمريكية، وعلى رأسها ترامب، هي الفائز الأوحد في الانتخابات البرلمانية الإيرانية، فحملات العقوبات والاستراتيجية الجديدة التي تبناها الرئيس الأمريكي الحالي ضد إيران وسلطتها، دفعت الإدارة الإيرانية إلى التخندق مرة أخرى خلف الخطاب "المتشدد" الذي سينسف معه كل الدعوات التي كانت تدعو إلى التهدئة أو فتح باب جديد للتفاوض مع إيران حول المشاكل العالقة التي لصقت بها في الفترة المقبلة.
فالصوت الذي سيعلو في الفترة المقبلة لن يتحرك بعيداً عن دعوات الهلاك لأمريكا، وابتزاز أوروبا بدعوى فشلها في وقف توغل إجراءات أمريكا على إيران، واستعار التطلعات الإيرانية في المنطقة، مع تبدد كل رأي رشيد يحاول تقليم أظافر إيران.
الأمر الأخير، ورغم أن موسكو وبكين تقفان داعمتين بقوة للجمهورية الإسلامية؛ لتقاطعات اقتصادية قوية بينها، وعدم رغبة العاصمتين في توغل أمريكي أكبر على حساب ما تحققه إيران لهما في المنطقة، فلن يكون بوسعهما مع بروز التيار المحافظ، سوى امتصاص غضب الداخل الإيراني ومحاولة احتوائه؛ حتى لا تجد طهران الجديدة "المتشددة المحافظة" نفسها وقد دفعت أثماناً أخرى من العقوبات الاقتصادية، على يد إدارة ترامب، دون القدرة حتى على الصراخ.