مبارك مات ونحن مَن قتلناه.. لكن لا شماتة في الموت

عدد القراءات
3,020
عربي بوست
تم النشر: 2020/02/25 الساعة 16:36 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/02/25 الساعة 16:38 بتوقيت غرينتش
مبارك مات ونحن مَن قتلناه.. لكن لا شماتة في الموت

يروى أن رجلاً حلف على امرأته بالطلاق أن الحجاج بن يوسف الثقفي في النار، ثم أراد ردَّها، فقالت: لا والله لن تمسني، قال: ولِمَ ذاك؟ قالت: قد علَّقت طلاقي على ما لا تعلم، فليس أمر الجنة والنار بيديك، ورحمة ربك واسعة، فربما أدخل الله الحجاج الجنة، فتنفذ يمينك فأحرم عليك، فأُرتِجَ على الرجل. فكيف له أن يعرف يقينا إن كان الحجاجُ فى النار فتظل امرأته على ذمته ويغشاها، أم أن الله سبحانه وتعالى رحم بن يوسف وأدخله الجنة فتنفذ يمين الطلاق وتحرم عليه امرأته. 

فأخذ الرجل مسألته إلى قاضى البصرة وفقيهها الحسن البصرى، وقال له: أفتِنا يا مولانا فى أمر لا نرى منه والله مخرجاً، حلفت على امرأتي بالطلاق أن الحجاج بن يوسف في النار، ثم أردتها فأبتْ وقالت علَّقتَ الطلاق على ما لا تعلم، فأنا اليوم عَزَبٌ أم متزوج؟

فأجابه الحسن على البديهة: اذهب يا ولدي واصنع بامرأتك ما تشاء، قال الرجل: وكيف ذاك؟ فقال الحسن: والله لئن لم يُدخلِ الحجاجَ النارَ فعلُه، فلن يُدخِلَك النارَ زناك!

وإن كان الحجاج قد قصف الكعبة بالمنجنيق، فإن مبارك أمرض ملايين المصريين بالسرطان، مرة في طعامهم، ومرة بوضعه المصانع وسط الأحياء السكنية لتحرق صدورهم. فالمحظوظ منهم ميت، والحي منهم معتلّ. رحل مبارك على سريره بعد أن عولج في أفخم مستشفيات العالم، وترك آلاف المصريين على الأرصفة، لا يملكون ثمن زيارة الطبيب الذي لا يتجاوز بضعة جنيهات، وإن امتلكوه ودخلوا المستشفى ماتوا من الإهمال والعدوى. رحل مبارك الذي ترك آلاف المصريين يتجمّدون في البحر وهو يشاهد مباراة كرة قدم، لا يحرك ساكناً، ولا يلقي لهم بالاً. وعندما ذكرت العبارات أمامه ذات مرة قال باستخفاف: "اوعى تكون عبّارة من اللي بيغرقوا".  

رحل مبارك وسط عائلته وحاشيته، بعدما سلبت الشرطة المصرية أرواح وأعين الشباب المصري في الميادين، فشَرَّدَ أسراً، ويَتَّم أطفالاً لأجل سلطة شاخت وقتلت عندما امتلأ أول ميدان في المحروسة. رحل مبارك بعد أن أورث البلاد والعباد الذل والانحطاط والمهانة والانكسار، وأورث رجالَه البطش والظلم والعدوان. يستطيع أي أمين شرطة أن يهين مَن يشاء من المواطنين العاديين، وبالطريقة التي تُرضي شغفه المرضي. قد يكون ذلك عن طريق القتل الرحيم برصاصة واحدة أو "الجلاشة".  والمصريون مطأطئوا رؤوسهم، لأن كرامتهم كانت مهدرة أمام كرامة حكامهم وطغيانهم. لذلك تراهم مطأطئي رؤوسهم في الخارج والداخل أمام أي غريب. يذهب المدرس المصري إلى السعودية فيسوقه الكفيل عبداً، وهو كالعبد لا ينطق ولا يتكلم لأنه يعلم يقيناً أن سعره رخيص، وأن الإهانة التي يتلقاها من الكفيل لها ثمن مادي، عكس الإهانة التي سيتلقاها في مطار القاهرة من أول أمين شرطة. 

رحل مبارك بعد 30 سنة في الكرسي، هيّأ فيها كافة الظروف كي تصبح الدولة المصرية مجرد تابع ذليل لجيرانها، من دولة قائدة ورائدة لدولة تابعة فقدت كل كروت قوتها وتأثيرها في محيطها العربي والإفريقي والإسلامي. لم نعد سوى مرافقين لدول "البترودولار"، نرى ما تراه السعودية ونتفق على ما تجيزه الإمارات العربية المتحدة.

حتى الغاز الطبيعي الذي رزقنا الله إياه، قرر مبارك إرساله لتل أبيب بتراب الفلوس، لينال لقب "الكنز الاستراتيجي" من الإسرائيليين، بينما يقتل المصريون بعضهم البعض من أجل أسطوانة غاز يتيمة، كل ما نعانيه اليوم من مآسٍ وكوارث نبت في عهد مبارك، قضاء فاسد مُسيّس وجهاز أمن قمعي، ودولة عسكرية فقدت عقيدتها القتالية، وصارت ترى العدو يأتي من الداخل.. من المصريين المعترضين على ما يحدث. 


يا ترى.. ماذا كان سيقول الحسن البصري عن مبارك لو كان معنا؟ 

أفقر مبارك وأهلك وأمرض وذلّ وبطش، لكن أبى الزمان إلا أن يموت بعد أن تزول سلطته، ويشهد غضب المصريين وانفجارهم، ليدرك أن مصر ليست عاقراً أو عاجزة عن أن تلدَ مَن يَطرد أمثالَه من الباب الصغير. رحل مبارك وترك لنا خلفاً يعتقد أنه أخصى المصريين، وأن الانتفاضة ضده حلم بعيد المنال، أو وهم يتوهمه البعض. ترك لنا من يؤمن أن أرحام المصريات قد عقرت عن إنجاب من يقف في وجهه.

لا شماتة في الموت 


فجأة ودون مقدمات تخرج من تحت الرماد واقعة وقوف الرسول عليه الصلاة والسلام لمرور جنازة رجل يهودي. ويسوقها البعض ليحتمي وراءها في دفاعه عن الفاسدين والظالمين؛ كي لا يفرح المظلومون والمكلومون بقدرة الله على أخذ الجبابرة. 

لكن هل كان الرسول ليرتضي التعذيب والاغتصاب في أقسام الشرطة؟ 

هل كان الرسول ليقبل بمجتمع لا يجد فيه الفقير قوت يومه، بينما لا يعرف الأغنياء أين وكيف ينفقون أموالهم؟ 

هل كان الرسول ليقبل بتصدير الغاز للأعداء، وبيوت المصريين بلا إنارة أو غاز؟

لم يكن لرسول العزة والكرامة أن يقبل بشيء من هذا، بل ولَدَعانا للانتفاض للحقوق المسلوبة وقول الحق في وجه السلطان الجائر. 

لكنني أشفق على من يقولون ويسوقون مثل هذه الحجج، فهؤلاء ضحايا عنف من نوع آخر. هؤلاء ضحايا القهر الفكري والعقلي، تم تقديم الدين لهم كدعوة للتسامح والحب والتقارب والتعايش مع الظلم والفساد والسكوت عن الحقوق وعدم دفع المعتدين والظالمين. تم اختزال الدين لهم في أحاديث تتحدث عن طاعة الحاكم والسمع والطاعة. ولم يذكر لهم أحد أن الرسول جاء ثائراً على الظلم والكفر. 

لكنه بين يدي الله الآن ولا تجوز عليه إلا الرحمة؟

كان مبارك شخصية عامة، حاكماً لمصر لثلاثة عقود، وتجربته التعيسة يجب تفنيدها ونقدها وإيضاح مثالبها، لأنها خلّفت مؤسسات ما زالت تدهس رقاب المصريين. ولو ارتضينا هذا القياس لأغلقنا أقسام التاريخ في الجامعات، ولسجنّا المؤرخين الذين يفنون أعمارهم للبحث في مسألة تاريخية من مئات السنين، بحجة أنهم يضيعون أوقاتهم ويتدخلون في قضاء الله. 

شخصياً، لا أملك أي مشاعر غضب أو كراهية تجاه مبارك، بشكل أوضح أنا لا أكره مبارك، لا أستطيع أن أكره رجلاً قتلناه في الماضي القريب، تلقى مبارك الرصاص للمرة الأولى يوم الـ28 من يناير 2011، وظل ينزف حتى يوم تنحيه عن السلطة، ليتم تشييعه إلى مثواه ما قبل الأخير. هذا رجل ميت منذ زمن، لكن ذكرى موته الأولى يجب أن تبقى لافتة تُنير الطريق للقادمين من بعدنا وتحذر القادمين من بعده.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

حذيفة حمزة
كاتب ومحرر
محرر، وباحث في علم الاجتماع الرياضي
تحميل المزيد