عزيزتي المرأة: ممنوع التحدّث عن الدورة الشهريّة.. وإلا شعر الرجل العربي بالقرف والغثيان!

عدد القراءات
3,073
عربي بوست
تم النشر: 2020/02/25 الساعة 12:56 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/02/25 الساعة 15:05 بتوقيت غرينتش
الألم يصاحب الدورة الشهرية/ Istock

أذكر ذلك اليوم بكلّ تفاصيله. 

كنتُ في الرابعة عشرة من عمري، حين دخلتُ حمّام منزل جدّي – الكائن في مدينة جبيل – لأُفاجأ ببقعة دمٍ صغيرة على سروالي الداخلي. لم أشعر بالهلع. فقد سبق لعائلتي أن وضعتني في صورة، أن "هذا" أمرٌ طبيعي يحدث مع النساء ويُعرف بالدورة الشهريّة.

أذكر أني ناديتُ والدتي، التي أعطتني فوطة صحيّة وعلّمتني كيف أستعملها، قبل أن تخرج وتُخبر العائلة ثمّ أهالي الحيّ بأن ابنتها بلغت. لم يبقَ منزل في حيّ مارجرجس في جبيل، إلا وتناول البقلاوة لهذه المناسبة.

تخيّلوا الخجل الذي اعتراني مع كلّ كلمة "مبروك" قيلت لي، وأنا في حيرةٍ من أمري، لا أفهم لماذا علينا أن نخبر الجميع "إنه إجِتني"؟! في وقتٍ لاحق من هذا اليوم "التاريخي"، توقّف الدم عن السيلان، لتعود الدورة الشهريّة بشكلٍ منتظم بعد عامٍ. أظنّها – مثلي – خافت من هول الاحتفالات التي عمّت في الحيّ. 

لستُ أدري إن كنا، كفتيات، نشعر بالخجل من الدورة الشهريّة فقط؟ أم من كلّ التحوّلات الجسديّة التي ترافق هذه المرحلة؟ فنحن ننتقل، في أقلّ من عام، من اللعب في الشارع مع الصبية (كنتُ آخذ دور حارس المرمى في مباريات كرة القدم) إلى محاولة استيعاب التغيّرات التي تُفرض على جسدنا. تنتفخ صدورنا فجأة، ينمو الشعر في جسمنا، نكتشف رغباتٍ غريبة. وكأننا نختبر ولادة هويّة، جسديّة ونفسيّة، جديدتين.  

بعيداً عن شعوري الخاص كمراهقة حينها، كنتُ محظوظة بعائلةٍ منفتحة، لا تعتبر الحيض معيباً أو محرَّماً، بل تضعه في نطاقه المناسب: تحوّلٌ بيولوجي في جسد الفتاة، لا أكثر ولا أقلّ. حسناً، مع كلّ هذا الاحتفال، ربّما أكثر قليلاً! لكن الحديث عن الحيض لا يزال شبه محرَّمٍ و"تابو" في مجتمعنا، الذي نفاخر بالمناسبة أنه تقدّمي أكثر من مجتمعات دول الجوار. 

أذكر أننا -كفتيات- كنا نطلق أسماء غريبة على الدورة الشهريّة، كي لا يفهم رفاقنا الشباب عمّا نتحدّث، في حال استرقوا السمع إلى همساتنا. في إحدى المرّات، حين رُنَّ الجرس وحان وقت فرصة الساعة العاشرة في ثانوية جبيل الرسميّة، وقفتُ لأجد دماءً على مقعدي. أجزم أن كلّ فتاةٍ مرّت بهذا الموقف. عدتُ وجلستُ على الفور، كي لا يرى أحدٌ هذه المصيبة. ماذا أفعل؟ كيف أخفي هذا العار؟ تحجّجتُ بأنني أريد استغلال الفرصة للنوم، وبقيت مسمّرة مكاني حتى "جلاء" آخر طالب من الصفّ، ثم عملتُ على تنظيف وتطهير المقعد، قبل الدخول إلى الحمام، بعد ربط الجاكيت على خصري لإخفاء آثار العار، حتى حان موعد انتهاء المدرسة. 

لا يزال، حتى يومنا هذا، عددٌ كبير من النساء يشعرن بالخجل لدى شرائهن الفوط الصحيّة. غالباً، وحين أكون برفقة صديقةٍ في دورتها الشهريّة، أتبرّع بالدخول إلى السوبرماركت عنها من أجل شراء الفوط. وعندما يأتي دوري في دفع الفاتورة، دائماً ما يشعر الشاب – الذي يوضّب الأغراض التي اشتريتها – بضرورة وضعها داخل كيسٍ أسود. ولا تزال النساء، حتى يومنا هذا، يخفين الفوط الصحيّة داخل ملابسهن أو في جيبهن حين يكنّ في دورتهن الشهريّة ويتعيّن عليهن دخول حمّام، وهن في العمل.

في الثامن عشر من فبراير/شباط الجاري، اعترضتُ على زيادة الأسعار التي طالت الفوط الصحيّة، في ظلّ الأزمة الاقتصاديّة التي تسيطر على لبنان والتي أدّت إلى زيادةٍ مهولة في أسعار جميع المنتوجات، المحليّة والمستوردة. كتبتُ تغريدةً عبر حسابي على موقع تويتر، أعترض فيها على وصول سعر الفوط الصحيّة إلى ثمانية آلاف ليرة، في حين كنا ندفع ثمنها ما يُعادل ثلاثة آلاف ليرة. 

التغريدة لاقت انتشاراً واسعاً، نسبةً للانتشار الذي تلقاه تغريداتي في العادة. وبحسب معظم التعليقات التي وردتني، يبدو أنني تحدثتُ في موضوعٍ غير مهمّ، مقرف، سخيف، ومعيب. وكالعادة، شعر الرجل العربي بضرورة المشاركة في موضوعٍ يخصّ النساء. فهو، بالإضافة لشعوره الدائم بأنه وصيّ على أجسادنا، ينهار إن لم يكن هو محور الحديث. فيشعر بضرورة أن يدليَ بدلوه ويقدّم النصائح.

توزّعت النصائح لي في هذا اليوم، بين أن أستعمل المنشفة بدل الفوطة، وبين أن أسأل جدّتي كيف كانت تتعامل مع الموضوع في صباها. هناك من طالبني – ساخراً – بالخضوع لعملية إزالة الرحم، هناك من شتمني لأني مقرفة، وآخر أخبرني أن تغريدتي أشعرته بالغثيان. شعر بالغثيان من دماء حيضي، لكني متأكدة أن بإمكانه مشاهدة الدماء التي تغطّي الجثث عبر التلفزيونات ومواقع التواصل، بكلّ شغف، لساعاتٍ ومن دون تذمّر.

في عام 2016، أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما أنه لم يكن يعرف أن السدادات القطنيّة، أو ما يُعرف بالـ Tampons، تعتبر ترفاً وتخضع للضريبة في كثيرٍ من الولايات. تخيّلوا رئيساً عربياً يُعير أهميّةً لموضوعٍ مماثل. حتماً، سيخرج من يقول له "ما هذا الموضوع السخيف؟ يا لَفضاوة بالك". 

في سياقٍ متّصل، هناك سؤالٌ شهير (ينتشر كثيراً عبر مواقع التواصل) طرحته الناشطة النسويّة الأمريكية غلوريا شتاينم في أكتوبر/تشرين الأول 1978، نُشر ضمن مقالٍ لها في Ms. Magazine. تسأل شتاينم: "ماذا سيحدث، لو أصبحت الدورة الشهريّة – وبطريقةٍ سحريّة ومفاجئة – تُصيب الرجال؟ الإجابة واضحة بالنسبة لها: "سيصبح الحيض حدثاً بيولوجياً يُحسد الرجال عليه، وسيتباهون بغزارة دمائهم واستمرار دورتهم الشهريّة".

مشكلة الرجل مع الدورة الشهرية إذاً، أنها لا "تُصيبه". هي "تصيب" النساء، والدماء تخرج من المهبل. هذا العضو العار، الموجود في الجسد العورة، الذي يشغل المجتمع العربي من المحيط إلى الخليج. 

خلال حفل الأوسكار في دورته الـ91، عام 2019، نال فيلم Period. End of Sentence (الدورة الشهرية. نهاية الجملة) جائزة أوسكار أفضل وثائقي قصير. الفيلم، وهو من إخراج رايكا زهتابشي، يحكي قصّة مجموعة من النساء في "هابور"، على مشارف العاصمة الهنديّة "نيودلهي"، يواجهن النظرة السلبيّة للدورة الشهريّة، فيُنشئن مصنعاً منزليّاً لصنع الفوط الصحيّة. يتصدّى الفيلم، على قصر مدّته (26 دقيقة) للنظرة المجتمعيّة التي تعتبر الحيض عاراً، ويتحدّاها، كما يوضّح تأثير الوصمة الاجتماعيّة، المقترنة بالدورة الشهريّة، على حياة النساء وطموحاتهنّ.

في الفيلم، تُخفي المراهقات شعورهنّ بالحرج من خلال ضحكاتٍ خجولة، حين يُسألن عن الدورة الشهريّة. ورغم أنهنّ تجاوزن سنّ البلوغ، غير أن معلوماتهنّ عن الدورة وعن التغيير الذي يطرأ على أجسادهنّ هي شبه معدومة. وفي الوقت نفسه، عندما يُسأل الصبية عن الدورة الشهريّة، يشعر معظمهم بالحرج ويبدو الجهل واضحاً من خلال إجاباتهم، لدرجة أن أحدهم يقول "هذا مرض يصيب النساء". من جهتهنّ، لا تختلف نساء القرية عن المراهقات والمراهقين، فإحداهنّ تقول إن الدم "القذر" يخرج من المرأة خلال فترة الحيض، وإنها حتى لو حاولت الصلاة بمفردها خارج المعبد – لأنه لا يمكنها دخوله إذا تُعتبر قذرة وغير طاهرة – فإن الآلهة لن تستمع إليها، لأن المرأة كائن يفتقر للطهارة الدينيّة في فترة الحيض. 

الفيلم، المُتاح عرضه على منصّة نتفلكس، يوضّح أن 10% فقط من النساء في الهند يمكنهن الحصول على الفوط الصحيّة، التي تعتبر ترفاً، لأنها باهظة الثمن لكثير من المواطنات. 90% من السيّدات في الهند لا يمكنهنّ الحصول على الفوط الصحيّة، أبسط حقوقهنّ. هنّ لم يخترن أن يُخلقن نساء. بعد فوزه بجائزة الأوسكار، غرّدت المخرجة الهنديّة قائلة: "من كان ليصدّق.. أن يفوز فيلم عن الدورة الشهرية بالأوسكار".

صناع فيلم "الدورة الشهرية. نهاية الجملة" مع جائزة الأوسكار

هذا التعامل الحذر مع الدورة الشهريّة، من قِبل المجتمع، مرتبط بشكلٍ أساسيّ بنظرته الحذرة لأجسادنا، نحن النساء. أجسادٌ تُنتهك باستمرار، وتعتبر فتنة ومصدر إغواء. فأن تكوني امرأة في هذا المجتمع، هو أمرٌ مرهق.

كم مرّة كنا، نحن النساء، بحاجةٍ لإجازةٍ من العمل بسبب آلام الدورة الشهريّة؟ كم مرّةٍ أردنا أن نبقى ممدّدات في فراشنا، في يومها الأول؟ كم مرّة لم نطالب بذلك، لأن أوجاع الظهر والبطن والرجلين والرأس لا تؤخذ على محمل الجدّ؟ فألمنا غير حقيقي، لأن الرجل لا يشعر به. كم مرّة لم نطالب بالإجازة لأن إفراز جسمنا لهرمون البروجسترون، الذي يؤدّي إلى تقلّباتٍ حادّة ومتعبة (لنا قبل الآخرين) في مزاجنا، هو مدعاة للسخرية ونسج النكات حوله؟ فتقلبّاتنا المزاجيّة غير حقيقية، لأن الرجل لا يعاني منها. حتى حين يتوقف هذا الدم عن الخروج من المهبل، تتحوّل المرأة إلى مادة للسخرية كونها دخلت مرحلة الـ Menopause، التي لا نزال – في عالمنا العربي – نطلق عليها اسم "سنّ اليأس". السنّ التي تعلن فيها بويضاتنا انتهاء صلاحياتها، واليأس من عدم قدرتنا على الإنجاب. فمطلوب منّا أن نعيش لأداء دورٍ واحدٍ أحد: الإنجاب، والويل للمرأة التي تعلن أنها لا ترغب بذلك. لا قيمة لنا، ولأجسادنا، خارج إطار هذا الدور. 

الحُبّ، كلّ الحُبّ، لهذه الأجساد التي نحملها علينا، فتتحمّل معنا الكثير.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
رُوى سابا
مدوّنة لبنانية
مدوّنة لبنانية
تحميل المزيد