“رسالة ما قبل الرحيل”: نرى الموت في كل لحظة ورائحته في كل مكان.. ماذا يعني أن نرتدي البدلة الحمراء؟

عدد القراءات
703
عربي بوست
تم النشر: 2020/02/24 الساعة 12:08 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/02/24 الساعة 12:08 بتوقيت غرينتش
"رسالة ما قبل الرحيل": نرى الموت في كل لحظة ورائحته في كل مكان.. ماذا يعني أن نرتدي البدلة الحمراء؟

أيام وتصطبغ الطرقات باللون الأحمر، كل شيء سيتحول إلى ذلك اللون، المحال والطرقات حتى الأشخاص، وكأن أحدهم توجه إلى لوحة الإعدادات واختار هذا اللون، والناس جميعهم ينتظرون ذلك اليوم ليعبروا عن مشاعرهم؛ نحن أيضاً على موعد مع اللون الأحمر، بيد أنا نرجو من الله ألا نراه.

كآبة شديدة تظهر على المكان، أبوابه جدرانه، لم أعرف سبباً لهذه الكآبة، تبددت هذه الجهالة سريعاً، وعلمت في اليوم التالي أن دخولي صادف اليوم الذي تم فيه تنفيذ حكم الإعدام بحق أربعة أشخاص. 

بعد فترة جمعني القدر بأحد المحكوم عليهم بالإعدام في قضية "أحداث المنيا"، قابلته بعد أن حولت قضيتهم لإعادة المحاكمة، واستبدلوا البدلة الحمراء البغيضة بتلك البيضاء التي تبقي على شيء من الحياة في أجسادهم، قال لي ويملأه الأسى: "مشكلة الأحمر يا ابني أنك ترى الموت في كل يوم بل في كل لحظة، في كل فتحة باب، كل تحرك في الردهة، يوحي بالموت. نجلس معذبين، إذا تحرك أحدهم، أو أحدث صوتاً كيس بلاستيكي، حسبناه الموت يدنو، ودارت أعيننا، ذلك أن التنفيذ يكون بعد الفجر ومع صعود الشمس معلنة أن يوماً جديداً قد خرج للحياة تصعد أرواحنا وتتدلى رؤوسنا". 

قدر الله لي البراءة ومنحني الحرية، لكن قبل خروجي ولحاجة بيني وبين ضابط المباحث قال لي: "ما تبقى لك من وقت في السجن وإن كان ساعة أو يوم ستقضيه في التأديب"، أُخذت إلى العنبر الآخر، ونفذت من باب أسود إلى ساحة مظلمة، تبينت لوحة مكتوب عليها عنبر المخصوص، مرت في جسدي رعشة كمن يقترف ذنباً لأول مرة، لولا أن ثبتني الله لخارت قواي. 

لا أحد يتكلم في هذا المكان ولا يهمس، سكون شديد، زنزانة عبارة عن مترين بها نافذة كبيرة، ليلة شديدة البرودة كالتي نحياها اليوم، وفي هذا المكان لا شيء من الحياة، حتى أبسط حاجاتك البشرية لا تستطيع أخذها هنا، لا كهرباء، لا فرش، لا شيء سوى البرد، وشبح الموت. 

الوقت يمر بصعوبة شديدة أو يكاد لا يمر، صيحة شديدة رجت المكان، بعد قليل تدقيق تبينت حقيقة الصوت، بعض الشباب قرروا أن يقضوا وقتهم ويتسلوا غير آبهين لما أقدموا عليه من جرم، فقد نسوا أو تناسوا أنهم في عنبر المخصوص. 

صوت زاجر شديد حسبته من السجان أخمد هذه الضوضاء التي بدأت أو كادت أن تبدأ لكن تخميني أخطأ فقد كان هذا أحد المحكوم عليه بالإعدام، عاب على الشباب فعلهم ولقنهم بعض السباب والشتائم ثم عاد الصمت يسود المكان من جديد، مرت الليلة ولا أدري كيف مرت؟ كلما ألجأت ظهري إلى الجدار لسعني البرد، فقمت مفزوعاً، لا أستطيع الجلوس، ولا أقوى على النوم، والوقوف فيه مشقة، كانت مشكلتي أني فتى مفروق العظم. 

في اليوم التالي أتت الترحيلة، وخرجت من السجن ومعي حكايات أولئك الذين أعدموا أو كادوا. علمت بعد خروجي أن أحدهم يدعى خالد عسكر ومعه مجموعة من الشباب قد أحيلت أوراقهم إلى المفتي، لم تمر سوى شهور وتم تأكيد الحكم عليهم، اطلعت على رسائله لأمه، ورسائل أمه إليه، أخبرتنا أمه أن إدارة السجن زيادة في القهر أعطتها قماشاً أحمر، وأمرتها بحياكة بدلة الإعدام لولدها خالد. 

ظللت عدة أشهر لا أنام إلا مغلوباً خشية أن أستيقظ على خبر تنفيذ حكم الإعدام بحقه، وكعادة الأشياء نسيت ذلك أو ربما تناسيته، وأصبحت لا أذكرهم إلا في دعائي وبعض المنشورات على صفحات التواصل الاجتماعي، بعدها صدر حكم الإعدام بحق الشباب في القضية المعروفة إعلامياً بقضية "اغتيال النائب العام". 
تمنيت الأحمر كما وصفته المطربة تايلور سويفت في أغنية "red"، تمنيناه منا نقدمه لأمتنا على أعتاب الأقصى، غير أن بلدنا أراده لوناً لقهرنا، ولموتنا. 

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد دبور
كاتب ومهتم بالإعلام
تحميل المزيد