لطالما وقفت أمام هذا السؤال وتأملت فيه، في كل عام يمر عليَّ يوم مولدي، أحاول أن أراجع حسابات أيام وأشهر مضت، خضت غمارها بسعي واجتهاد ومثابرة في حين، وبملل وتردُّد وخوف وكسل وانكسار في أحيان أخرى.
مرضت وشُفيت؛ ابتسمت وبكيت، ثم هبطت عزيمتي لكن جددت النية وتوكلت على الله، وبدأت كأني ذاك الصباح من جديد قد وُلدت.
كثيراً ما نعتقد أن أعياد مولدنا، أي ذلك النهار الذي أدخل البهجة على آبائنا هو الذي يستحق الاحتفال والابتهاج. لكننا في المقابل نتعلم ونكبر وتكبر كل الأحداث من حولنا وداخلنا، تتضخم الحياة في أنفسنا وتتضح الرؤية. وفي أثناء هذه المسيرة هناك أيام جعلتنا نشعر بأننا قد وُلدنا داخلها. وُلدنا لا على يد الطبيب؛ بل على يد السنوات والعُمر الذي خضناه بنجاح بعد جهد وسعي واجتهاد، بفوز وصلنا إليه بعد عدة خسارات. خضناه بشخص يرافقنا لنكمل المسيرة معاً ونصنع ميلاد طفل غداً. خضناه كتجربة تمنحنا صفعة وإخفاقاً يورثاننا الحكمة والتروي والصبر والتأني وأخذ الحيطة والتزام الحذر، وأن للقرار ثمناً وقيمة تُذكر.
ليست الغاية أن تكون الأفراح والسعادة ربحنا الأكبر، ففي بعض الأوقات تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، وتسير مراكب حياة عكس المتوقع والمتفق عليه لدى أغلب الناس. والبعض يُولد بعد التجارب القاسية، التي ما كان سيصل إلى ما هو عليه اليوم لولا المعارك والصعوبات التي خاضها خلال تلك التجارب وجعلت منه صلباً وقوياً أكثر من ذي قبل، أو متسامحاً ومتعاطفاً مع نفسه والآخرين من حوله، وأن يكون فخوراً بكون الحياة جعلته يتجاوز تلك المصاعب بمفرده أو بمساعدة أيادٍ امتدت لتكون طوق النجاة بالنسبة له. النجاة من الغرق في أيام وأرقام وأحلام وأوهام تستمر لاهثاً خلفها، لكن تكتشف في منتصف الحلم أو الوهم أنك قد نسيت نفسك.
في كل مرة نقف فيها أمام عتبة سنة جديدة يجب أن نراجع فيها إنجازاتنا، وأن نكتشف أن ما نجحنا فيه وما تقدمنا صوبه وما مررنا به من مصاعب تجاوزناها يستحق الفخر والاحتفال، وأن نصاب بخيبة أمل بأننا كلما تقدم بنا العمر أصبحنا نرى أن للوقت والتجارب والأشخاص والأحداث قيمة أكبر.
قيمة تزداد بمرور الزمن، تصبح باهظة الثمن كلما أكل عليها الدهر، بعضها يتلاشى ويبهت حتى يختفي كأنه لم يكن يوماً، وبعضها الآخر يزداد لمعاناً وجمالاً وقيمة.
كل تلك الأحداث تُشعرنا بولادة شيء ما، يترك أثره وبصماته فينا، ولا نعود من بعده كما كنا من قبله أبداً.
ومن ثم يعود ذلك اليوم المنشود لأحبّائنا، يوم وُلدنا فيشعلون لنا الشموع ويُحيطوننا بالاهتمام الصادق والهدايا التي تم تغليفها واختيارها بعناية، فأقف أمام هذا الحب كل عام والذي أشعر بأني محظوظة به أكثر من غيري وأعتبره نعمة من الله تستحق أن أشكره عليها. بوجودهم في حياتي، بهذا الكم من العطاء والحب الذي يحيطني أشعر كأن الحياة تمرر يدها على روحي بلطف متناهي الرقة.
بعد كل ذلك الاهتمام أعود لجلد الذات والتفكير.. لكن ألا يجب أن أهدي إلى ذاتي شيئاً ما، يُذكر.
لا.. ليس بتلك الطريقة التي ننفق فيها حفنة من الأموال ونرسل إلى أنفسنا طرداً اخترناه سلفاً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.