“بيب غوارديولا الذي أكل ذراعه”.. لماذا انهار مانشستر سيتي فنياً ونفسياً هذا الموسم؟

عربي بوست
تم النشر: 2020/02/20 الساعة 17:05 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/02/20 الساعة 17:05 بتوقيت غرينتش

عندما كنا في المدرسة كنا نجد من يحب مادة الكيمياء، ومن يكرهها، من يجد متعة في فهمها، ومن يجد صعوبة في نطق أسماء العناصر الكيميائية من الأساس، لكن إن أحببتها أم لا فأنت تعرف تكوين ملح الطعام بالطبع، أظن أنها المعلومة التي يعرفها كل من حضر حصة الكيمياء، وإن كنت أحد الذين يهربون من الحصة فالملح هو مزيج من الصوديوم وثاني أكسيد الكربون.

هل قابلت يوماً عالم ذرة لا يعرف تلك المعلومة؟ هل سبق لك أن قابلت عالم ذرة من الأساس؟

حسناً، أنت لم يسبق لك لأنه من الصعب مقابلة أناس كذلك بسبب انشغالهم الدائم في اكتشاف ما يصلح للعالم ويصلحه. لن أُشتتك أكثر من ذلك، من المستحيل نظرياً وعملياً مقابلة عالم ذرة لا يعرف تكوين الملح، لكن هناك مدرب من أكبر المدربين في تاريخ كرة القدم أبدع في كل شيء صعب، لكنه لم ينجح في السهل.

نعود لموسم 2009، الموسم الثاني لبيب غوارديولا مع برشلونة، وأفضل موسم له على الإطلاق بعد موسم 2011، كان بيب حينها مدرباً مغموراً، لا يملك مسيرة تؤهله ليضمن لبرشلونة المركز الرابع حتى في سلم الدوري الإسباني، لكن ما حدث كان عكس ذلك، حيث أنهى الموسم في صدارة الدوري الإسباني بفارق 9 نقاط عن ريال مدريد، ونجح في الحصول على دوري أبطال أوروبا بفوزه على مانشستر يونايتد في النهائي، لكن قبل أن يحدث على كل ذلك كان قد اتخذ بعض القرارات الثورية، برحيل ديكو ورونالدينيو، ووضع إيتو وتوريه تحت الاختبار.

خطوة كتلك كانت سلاحاً ذا حدين بالطبع، المخاطرة بالاستغناء عن نجوم كهؤلاء خطوة قد تمثل تهديداً لمستقبل النادي، لكنها قد تحمل معاني كثيرة لماهية غوارديولا في عملية اختيار اللاعبين، وقد حدث بالفعل، غادر يايا توريه بعدها بعام لمانشستر سيتي، وتم تصعيد لاعب طويل القامة وبطيء يُدعى سيرجيو بوسكيتس ليحل محله، وغادر ديكو ورونالدينيو، وتم الاعتماد على الشاب بيدرو وإعطاء الراية لليونيل ميسي صاحب الـ21 عاماً آنذاك.

غوارديولا الذي أكل ذراعه

بعد ذلك أكل بيب غوارديولا الأخضر واليابس حرفياً، بمعدل صرف أقل بكثير من ريال مدريد عكس الشائع، وبنجاح غير متوقع وساحق، بل ازدادت شراسة فريقه في 2011، الموسم الذي أذل فيه برشلونة منافسيه ولم يفز عليهم فقط، كل هذا قد يفسره ماهية غوارديولا ذاتها، إنه رجل لا يحب الجمال، بل التوحش. تلك كانت أهم أسباب مغادرة بيب غوارديولا من برشلونة بالمناسبة.

هل من الخطأ أن تصل لدرجة التوحش ضد خصومك؟ إذا أجبت بلا فأنت لم تفهم ما أقصده، وإذا أجبت بنعم فأنت لم تفهم ما أقصده أيضاً، معضلة صعبة كما يبدو. النجاح الكاسر هو أن تكسر مقاومة العدو كي لا يصبح نِداً ولو ظاهرياً مهما بلغت قوته، لكن استخدام الذخيرة ضد أضعف الجيوش بالقدر ذاته الذي يحدث إذا حاربت دولتك دولة عظمى هو غباء وعِند يستنزف الذات بيد المرء، وذلك لأن إخلاء الذخيرة وعوامل القوة تُحدَد على قوة الخصم لا العكس، كي لا يتم استنزافها في اللاشيء.

يبدو أنك فهمت ما أقصده، لكن حتى إذا لم تفهم فتعال نعود للخلف 3 سنوات فقط، الوقت الذي ذهب فيه بيب غوارديولا لمانشستر سيتي بعد مسيرة لم تشهد لقب دوري الأبطال مع بايرن ميونيخ، وستكتشف في القادم هنا أن سبب مغادرة بيب غوارديولا من برشلونة هو السبب ذاته الذي حدث مع بايرن ميونيخ.

في أولى مواسم غوارديولا مع مانشستر سيتي، استخدم الرجل الخطوات الصحيحة والمنطقية في بناء مشروع قوي، لم يأتِ الرجل بجنوده، بل قرر بيع من لم يُفده على المدى البعيد مثل خيسوس نافاس وبكاري سانيا، الأمر لم يكن متعلقاً بالسن أبداً، فالرجل لم يقرر ذلك مع فيرناندينيو، لأنه وجد فيه الطاقة التي قد تفيد النادي، مع إضافة عناصر أخرى تحمل طاقات لمنظومة لا تُقهَر.

بعد اكتمال نشأة الهيكل العام الذي سيضيف عليه غوارديولا بعض الإضافات لتكملة المنظومة كتوليفة وكتركيبة، حصل الرجل على البريميرليغ بعد موسم أول فاشل، لكنه لم يذهب بعيداً في دوري الأبطال، وكان ذلك منطقياً لأنه ثاني مواسم الرجل وأول مواسم السطو.

الموسم السابق وهو الموسم الثالث لغوارديولا مع الفريق، كون الرجل فريقاً مرعباً بكامل الأسلحة، جعل الجيد ممتازاً والممتاز مميزاً، حتى فابيان ديلف كان له نصيب في هذا المشروع، بل قدم أداءً رائعاً لفترة ليست قصيرة. حول الفريق لنسخة من الكربون من النموذج المثالي (برشلونة)، جاء الرجل بساني وسترلينج كجناحين داخليين في العمق مثلما فعل مع بيدرو وفيا، لكن خلفهم كان رجل العصابة الأول بيرناردو سيلفا، صانع اللعب الحر كما قال الكتاب، يتحرك ويسحب معه مدافع الخصم لتسنح الفرصة لجناحي الفريق الداخليين في التوغل للعمق، أو بالسقوط للوسط لبناء الهجمة إذا كان الخصم متكتلاً دفاعياً، ويسقط أجويرو من دون كرة ليسحب معه مدافعاً أو اثنين خلف المنطقة، لخلق فراغ بين أنصاف مساحات الخط الدفاعي لتوغل الأجنحة للداخل.

كل هذا قد يبدو جيداً، لكن بالإضافة لدي بروين أيضاً، اللاعب الذي تحول مع بيب غوارديولا من مرحلة اللاعب الممتاز والمميز للاعب المثالي، بجانب أنه أكثر لاعبي البريميرليغ قوة في إرسال الكرات الدقيقة بين الخطوط، هو أيضاً أكثر اللاعبين مناصفةً مع كانتي في قطع الكرات على الدائرة في 2017.

كل ذلك فسر الانطلاقة القوية لغوارديولا في أول 6 مباريات في الدوري، سجل فيها 18 هدفاً واستقبل 5، بعد دخول التوقف الدولي لم يبدُ الأمر مريحاً لبيب لأن غالبية فريقه يمثلون مراكز قوة لمنتخباتهم، وبالتالي تم استنزافهم بدنياً، بعد انتهاء التوقف الدولي كانت هناك مباراة ليست سهلة ضد إيفرتون، سجل فيها السيتي واستحوذ وضمن النقاط الثلاث مبكراً، لكن بسبب توحشه شعر أن الاستعراض بما يملك من أسلحة أمر مهم في عملية فرض السيطرة على الجميع، فرفع الإيقاع ولم يسحب أهم لاعبيه وفاز بالمباراة بثلاثية نظيفة أداء ونتيجة.

بعد تلك المباراة كانت هناك مباراة ضد ليفربول، البديهي والمنطقي هو دخول غوارديولا بكامل لاعبيه في تلك المباراة، لكنه لم يفعل ذلك لأن الحالة البدنية للاعبين لم تسمح بسبب مباراة إيفرتون، التي كي يُظهِر توحشه فيها ليفوز بالنقاط الثلاث بأحقية كاملة خسر 3 نقاط في مباراة كبيرة، بل هي الأكبر.

دخول مباراة ليفربول بجناح وحيد هو أمر كارثي، المرة الوحيدة التي اكتسح غوارديولا فيها ليفربول كان السبب هو الضغط الدائم على أطراف الريدز بجناح وظهير هجومي وخنقهم من طرفي الملعب، لكنه جلد ذاته وجلد فريقه قبل جلد الجميع برتم واحد عالٍ، وكأن اللاعبين آلات من حديد، فكان من المنطقي عدم الثبات الذهني أو البدني، وأحياناً الاثنان معاً في مباريات أكثر أهمية، كتلك التي في دوري الأبطال.

عرائس الماريونيت

الآن لنعود لسؤالنا: ما هي أهم أسباب ترك غوارديولا لبرشلونة، رغم أن الرجل قد بنى فريقاً لا يُقهَر في برشلونة!

نشرت صحيفة Man City News Now عن تصريحات بيب غوارديولا بعد الخسارة من نيوكاسل يونايتد بهدفين لهدف في الموسم الماضي، التي صرح فيها نصاً: "بعد الخسارة اليوم فقدنا كل الآمال، انتهت المسألة". لكن بعد المباراة نشرت الصحيفة ذاتها عن الاجتماع الذي عقده غوارديولا مع لاعبيه وسألهم عن أسباب الخسارة من وجهة نظرهم، وفعلاً شارك اللاعبون بالنقاش، وبعدها استطاع الفريق الفوز في الـ14 مباراة المتبقية بعد تلك المباراة.

هذا الموسم بعد الخسارة أمام توتنهام، اجتمع بيب مع اللاعبين لما يُقارِب الساعة، صحيفة الديلي ميل ذكرت أن أساس الاجتماع هو رغبة بيب في سماع سبب الخسارة والنتائج السلبية من اللاعبين، وكان السبب الذي أجمع عليه أغلبيتهم هو التغيير المستمر تكتيكياً وفنياً وخططياً بشكل عام، وطالبوه بالتوقف عن ذلك. يُذكَر أن الإسباني استخدم ما يقارب 76 شكلاً فنياً خلال فترته مع مانشستر سيتي. 

بالربط بين الحدثين من الأحدث للأقدم لإيصال الفكرة، نشرت صحيفة سكاي نيوز عربية في 2014، عن سبب ترك غوارديولا لبرشلونة، وبررت ذلك بقول غوارديولا إنه اتخذ قرار الرحيل عن فريقه السابق بعد الخسارة من تشيلسي في الدور نصف النهائي بدوري الأبطال عام 2012، وذلك لأنه فقد "الاتصال الكلامي" بلاعبيه.

هنا نمسك بمربط الفرس أخيراً، فقدان الاتصال باللاعبين نتج بسبب غوارديولا أولاً وأخيراً، أراد جعل لاعبيه مجموعة من عرائس الماريونيت، يحركها بيده لتطبيق ما في رأسه دون وضع أي اعتبار للمفهوم البشري. تشافي يفعل ما يفعله كل مباراة، ميسي يسجل 4 أهداف كل مباراة، داني ألفيش يصعد كالفيراري على طول الخط لجعل دافيد فيا متمركزاً في أنصاف المساحات، ولترحيل مركز بيدرو يساراً بسحبه لأحد مدافعي الخصم لجعل ميسي حراً. السيطرة المُطلَقة حتى الهوس بتفاصيل التفاصيل ذاتها جعل انتهاء الرحلة واستنزافها أمراً منطقياً، لأن عقل اللاعبين تم إلغاؤه في المواقف بالغة الصعوبة، والتي تحتاج تدخلاً من غوارديولا كالعادة، فإذا عجز الإسباني عجز الجميع.

رغم توحش لاعبي برشلونة مع غوارديولا، فإنه كان يعطيهم بعضاً من الحرية المنظمة في الثُّلث الأخير، لكن الأمر لم يحدث مع ماكينات مانشستر سيتي الذين تحولوا لعرائس ماريونيت بالمعنى الحرفي للوصف، أدوات تنفذ دون أن تفكر، وحتى عندما تفكر يكون الأمر في حدود الأوامر التي أمرها لهم مُحرِّكهم.

تصريحات بيرناردو بيرناردو سيلفا دليل كامل على ذلك، حينما خسر مانشستر سيتي مباراة واثنتين وثلاثاً وفقد اللاعبون زمام الأمور، خرج البرتغالي ليُدلي بتصريحات نقلتها صحيفة إيفنينج ستاندرد: "أعتقد أننا تراجعنا في وقت مبكر، وهذا هو السبب وراء تخلفنا عن ليفربول بفارق +20 نقطة، لم يكن ينبغي علينا فعل ذلك ولم يكن عن قصد. شعرنا بخيبة أمل وتراجعت نتائجنا، إنه أمر صعب لأننا اعتدنا على الفوز، وفي الموسم الماضي فزنا بكل شيء في إنجلترا".

أنسب حلول بيب غوارديولا الآن أن يتخلى عن بعض ما يريد ليتحقق كل ما يريد؛ إعطاء اللاعبين الحرية بأوامر تكتيكية أفضل بكثير من نصائحه لسترلينج ليعرف كيف يركل الكرة بقدمه بعد فرصة ضاعت بعد أن سجل هاتريك من 6 أهداف، سجلها الفريق في نهائي كأس إنجلترا الموسم الماضي. فأحياناً بعض الفوضى تبدو أكثر إفادة من كثير من الالتزام!.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

تحميل المزيد