جرى العُمر بلهفة، مستعيناً بأشكال تتغير سنة بعد سنة، يخطو بنا دون توقف، نحو الهوان والضّعف، أنت الآن تمرح في العشرين من عُمرك، شاباً تكسوه الآمال والأحلام، يُفكر دائماً في الوصول إلى حُلم ما لكنك لا تؤمن أن وصولك إليه ممكن، لكن ماذا لو أخبرتك أنك بعد أربعين سنة من الآن ستتحول أحلامك إلى حقيقة، وأن كل العقبات ستُمحى في لمحة حين تظنني كاذباً.. حسناً، دعنا نسأل جيان.
جولةٌ في بيرغامو
تلك المدينة الشهيرة التي تحوي بين طياتها بريشيا وأتالانتا، الفريقين اللذين يحملان عداوةً تقسم ظهر المدينة قسمين: محبين لأتالانتا، وعاشقين لبريشيا. في السنوات الماضية تحوّل مسار بريشيا إلى فريق يتقلب حاله بين الدرجتين الأولى والثانية، أما فريق المدينة الثاني فهو الأفضل حالياً، ولا عجب في ذلك، لأن مخططات إدارة أتالانتا لا تتسم بالعشوائية، وإنما يضع الرئيس مقداراً من الأهداف كل موسم، والهدف الأول يبدأ من الرأس.
من رأس مليء بالشيب، رجل سيموت مهووساً بالتفاصيل، ليخطو على عهد نيتشه وباجيو وسقراط، والجميع يعلمون جيداً نهايتهم، حتى إن ذلك لا يصيب جيان بالخوف، فهو يؤمن بأن الموت على معتقداته أفضل له من الموت سائراً على معتقدات غيره. إن جيان يضع ميثاقاً لا يفسخ، وميثاقه هو الـ 3-4-3، ورقابة الـ 1ضد 1، لا يمكن لعراب بيرغامو أن يتزحزح قيد أنملة عن فكرة الضغط وفكرة ثلاثي الخلف.
الشمعة الأولى
قبل ستة وعشرين سنة، وضع رجل غرولياسكو أول قدم له في عالم المستديرة كمدرب لناشئي يوفنتوس، مسيرة امتدت لتسع سنوات، تيقن خلالها جيان أن منحى الحياة الخاصة به سيتحول من الفئات الصغرى إلى فرصة أكبر في مصافّ الكبار. لم يكن عرض نادي كروتوني مناسباً، ومع ذلك فإن فرصة في الدرجة الثّالثة لن تبدو سيئة كبداية لترسيخ اسمه في خريطة مدربي إيطاليا.
لم تمر الفرصة مرور الكرام، صعد غاسبيريني بأداء هجومي فاق التوقعات، فالفريق الصغير الملقب بالفيثاغورسي قلب موازين معادلات الدرجة الثالثة آنذاك، مسجلاً عدد أهداف بلغ الــ57، متجاوزاً بذلك غياهب الدرجات الثانية، ملبياً نداء الصعود إلى الدرجة الثانية، تلك المواسم الثلاثة في كروتوني رسمت بداية قصة جميلة لجيان كمُدرب يخطو أولى الخطوات في مسيرته.
في موسم 06/07 ترنح نادي جنوى في الدرجة الثانية بسقوط حر وسريع، بعد سنة يتيمة في الدرجة الأولى، حينها بحث النادي كثيراً عن مدرب قبل أن تستقر الإدارة على اسم جيان لقيادة دفة الفريق. ولكي تدرك صعوبة مأمورية الصعود عليك أن تعرف أن يوفنتوس -بسبب فضيحة الكالتشيو- كان يقبع في الدرجة الثانية، مع الغريم التقليدي نادي نابولي، دون نسيان أندية عريقة كبولونيا وباري وبريشيا.
عض نادي جنوى على حلم الصعود بكل ما أُوتي من قوة، فحقق صعوداً مستحقاً خلف يوفنتوس المتصدر، ونابولي الوصيف، مسجلاً أرقاماً عالية، بتحقيق انتصارات أعلى من نابولي الثاني، وتسجيل 68 هدفاً، كأقوى خط هجوم في السيري B بعد يوفنتوس الأول.
كيف هي القمة؟
وصل جيان أخيراً إلى الكالشيو، مدججاً بخبرة أكبر من ذي قبل، بلغ منتصف الطريق بعد 6 سنوات في منعطفات الدرجتين الثانية والثالثة المليئتين بالحواف المميتة. الأمر ليس يسيراً كما هو ظاهر، يفكر النّاس في الصاعدين دون إطلالة صغيرة على الصعوبات الشديدة المتراصة على جوانب الطريق، ثم يظنون أنهم صعدوا بسهولة.
قصة جيان قبل الوصول تصاعدت تدريجياً حتى الذروة، ففي ثلاث سنوات بالكالشيو حقق المرتبة العاشرة، ثم الخامسة، ليصعد إلى الدوري الأوروبي، ثم التاسعة في الموسم الأخير قبل الرحيل الفاشل إلى إنتر ميلان، ليقال بعد شهرين فقط من التعيين، أعقب ذلك موسم في باليرمو، وثلاثة مواسم متوسطة في جنوى.
بطل بعد الستين
بعد كل تلك الكليشيهات، وبعد اثنتين وعشرين سنةً من خط أول سطر في التدريب، يصلُ جيان أخيراً إلى مدينة بيرغامو، التي تكتب روايةً مُختلفة، تزدان بالكرة الجميلة، والأداء المشابه لعروض السيرك الممتعة، دون تنحٍّ عن قواعد الماضي، في أتالانتا يجرون خلف الكرة في كل مكان، يتقيدون برقابة الــ 1ضد1، الإرث العظيم وخطة الــ 3-4-3 لا تفترقان مع جيان منذ القدم.
هو حالياً يعقد العزم، فيقود أتالانتا إلى دوري أبطال أوروبا للمرة الأولى في تاريخهم، ويكتب التاريخ مرة أخرى بتأهيلهم إلى دور الـ16 لذات البطولة، وهو يضعهم نداً للند أمام كبار الكالشيو، يتقدم في إحصائيات الأهداف على يوفنتوس ونابولي، ويسيل العرق البارد في كل مواجهات الفرق التقليدية بإيطاليا، بل يتصارع معهم بأدوات بسيطة في صُنع نظام يسلب عقل المشاهدين.
وباستحقاق وجدارة، حقق السيد جيان بييرو غاسبريني جائزة أفضل مدرب إيطالي عن الموسم الماضي، ليجدد العهد للمرة الألف، بأن البطولة لا تُقلد بالعمُر، في الختام.. يموت الزمار وأصابعهُ تلعب، ودون شك.. سيموت غاسبريني مهووساً، مهووساً بتفاصيل كرة القدم.
تحليل مباراة أتالانتا وفالنسيا: متعة التكتيك بعد الستين
في الدقيقة 75، ومع ضغط فالنسيا المتواصل من أجل تحسين النتيجة التي وصلت إلى 4-1، فاجأ غاسبريني الجميع وأخرج مدافعه "كالدارا" وأدخل مهاجمه الصريح "زاباتا". مفاجأة بالنسبة للكثيرين، لكن لمتابعي هذا الرجل الأمر طبيعي وأقل من العادي!
الهجوم والضغط خير وسيلة للدفاع
يعتمد نظام المدرب على خلق التفوق العددي والنوعي في كل مكان بالملعب، من خلال تمركز ثلاثة مدافعين أمام مرماه للهروب من ضغط الخصم، وخط وسط أقرب إلى "البوكس" ليناسب لعبة التحولات، بمعنى وجود ثنائي يدافع ويهاجم معاً، أمامهما صانع لعب خلف ثنائي هجومي متنوع، وفي الأطراف هناك ثنائي من الأظهرة والأجنحة على الخط الجانبي من الملعب.
إذا كانت فلسفة غاسبريني هي الهجوم فإن استراتيجيته من أجل ذلك تتمحور حول الضغط القوي من أجل قطع الكرة، بتواجد ثلاثي صريح يضغط باستمرار على رباعي دفاع المنافس، لذلك فإنه يركز أكثر على العمق من دون الكرة، مع استغلال الأطراف في حالة الاستحواذ، بتواجد أكثر من خيار على الخط، لذلك يهاجم أتالانتا من الأجنحة بنسبة تصل إلى 76% مقارنة بـ24% في العمق.
مع الضغط هناك لعبة التحولات السريعة بالكرة من الدفاع إلى الهجوم، بالإضافة إلى إيجاد الرجل الحر البعيد عن غابة سيقان المدافعين، من خلال نقل اللعب من جهة لأخرى، مع بعض "العدوانية" في التعامل أثناء الدفاع، خصوصاً عند الانتقال من نظام الرقابة الفردية إلى رقابة المنطقة، بمجرد فشل منظومة الضغط في نصف ملعب المنافس.
أقوى هجوم إيطالي
أتالانتا هو أفضل فريق هجومي بالدوري الإيطالي، ولديه أعلى عدد أهداف هذا الموسم، ويعود الفضل في ذلك إلى رسم 3-4-1-2 الذي صممه غاسبريني، من خلال تواجد بابو غوميز كرقم 10 صريح، مع تحرك جوسيب إيليشيش كنصف مهاجم ونصف جناح على الأطراف، لتكوين ثنائية هجومية رفقة الظهير المتقدم.
مارتين دي رون وفريلير هما ثنائي الارتكاز بالمنتصف، بالإضافة لماريو بازاليتيتش، بينما تكمن الخطورة الحقيقية للفريق عن طريق أظهرة الطرف، سواء كاستانيي/ جوسينز على اليسار أو هانز هاتيبور على اليمين.
وتؤكد الأرقام تنوع هجوم أتالانتا، من خلال التسجيل بالبناء المنظم، والمرتدات، والكرات الثابتة، وتناقل الكرة أكثر في نصف ملعب الخصم، مع قلة الاعتماد على الوسط في البناء المنظم، حيث إن الهجمة في الغالب تنتقل من الخلف إلى الأمام، بواسطة التمريرات الطولية المباشرة، وإيجاد لاعب مفاجئ في وبين الخطوط، سواء كان غوميز أو إيليشيش، الثنائي المتمركز بين الوسط والأمام.
رغم قوة الفريق هجومياً فإن المشاكل حاضرة دفاعياً، لصعوبة إكمال نظام الرقابة رجل لرجل، ووجود فراغات أسفل الأطراف عند التحول من الرقابة الفردية إلى نظام رقابة المنطقة.
نتيجة 4-1 كان من الممكن أن تصبح 6-1، كما كان يمكن لفالنسيا أن يتعادل أيضاً، بالتالي مواجهة الإياب ستكون مثيرة، وربما نرى "ريمونتادا" جديدة لأول مرة هذا الموسم، وربما نرى عبوراً تاريخياً لفريق بيرغامو.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]