"بانسيون مصر" الشهير بـ"راديو مصر"!
إذاعة "راديو مصر" من أشهر المحطات الإذاعية في مصر، ورغم أنها إذاعة (حكومية)، وليست (خاصة)، فإن جهة ما، ولأسباب غير معروفة، قررت "خصخصتها جزئياً"، قبل انتفاضة يناير 2011، فصارت أقرب ما يكون إلى الفندق الشعبي، أو ما يُعرف في الأفلام المصرية القديمة بـ"البانسيون" الذي يسكنه أفراد، جمعتهم ظروف مختلفة، لفترات ليست بالقصيرة!
فإذا أرادت جهة ما إطلاق برنامج "يخدم مصالحها" من خلال "راديو مصر"، فعليها أن تدفع! ومن ثم يُخصص لها وقت ضمن الخريطة البرامجية للمحطة، ويقوم بإعداد وتقديم هذه البرامج معدون ومذيعون من خارج ماسبيرو! رغم البطالة المقنعة التي يعاني منها ماسبيرو!
كان "راديو مصر" أكثر "نتوءات" ماسبيرو التي احتككت بها، في مواضع كثيرة ولأسباب مختلفة، يجمعها سياق واحد، ألا وهو "إثارة البلبلة، و"تأليب الشعب" ضد الرئيس مرسي، رحمه الله. وكما أسلفت في المقال السابق، فإن "راديو مصر" يتبع قطاع الأخبار الذي كان يترأسه الأستاذ إبراهيم الصياد وقتذاك، وليس "قطاع الإذاعة"، أما مدير "راديو مصر" فكان الأستاذ ماهر عبدالعزيز.
الأستاذ ماهر لم يكن "ماهراً"، لكنه كان موظفاً حكومياً "مثالياً"! ينحني لرؤسائه، ويستأسد على موظفيه، وكم من مرة أشفقت عليه أثناء حديثي معه، ولا أقول محاسبتي إياه! فقد أظهر لي مراراً أنه يشعر بأعراض "أزمة قلبية"، فأضطر إلى إنهاء اللقاء، وأصرفه ليستريح!
"راديو مصر" أم "راديو إسرائيل"؟!
ذات صباح تلقيت اتصالاً من زميلي في الرئاسة المستشار (ع م)، خلاصته هناك خبر يذاع على "راديو مصر" منذ ليلة أمس، مفاده أن هناك "اعتصاماً" في دوران شبرا، وأن هذا الخبر ليس صحيحاً!
لم أتصل فوراً بالأستاذ ماهر عبدالعزيز، وهو التصرف الطبيعي الذي يجب القيام به، كما هو شائع! ولكني تصرفت انطلاقاً من قناعاتي الدينية والمهنية الراسخة والسليمة، رغم أن الاتصال جاءني من رئاسة الجمهورية، لكني وضعت احتمالاً أن يكون "نفي الخبر" الذي تلقته الرئاسة ليس صحيحاً، ومن ثم فإن أي إجراء "عقابي" أو "تأديبي" سأتخذه بحق المعنيين بالأخبار في راديو مصر لن يكون سليماً، وسأضطر إلى الاعتذار عنه!
اتصلت على الفور بصديق لي من "إخوان شبرا". وطلبت منه الاتصال بأي شخص "ثقة" يسكن في دوران شبرا، أو قريباً منه، ويطلب منه بدوره، الذهاب فوراً إلى دوران شبرا، ولينظر إذا كان هناك اعتصام أم لا. وبعد دقائق معدودات اتصل بي صديقي ليقول لي: لا يوجد اعتصام في دوران شبرا، ولا يوجد أي مظاهر تدلّ على ذلك! فاتصلت من فوري بالأستاذ ماهر عبدالعزيز:
صباح الخير أستاذ ماهر.
صباح النور سعادة المستشار.
أين أنت الآن أستاذ ماهر؟
أنا في المقابر، أزور والدي.
خالص عزائي في والدك، وتابعت: هناك خبر يُذاع منذ ليلة أمس في أخبار "راديو مصر" يقول إن هناك "اعتصاماً" في دوران شبرا ولا يوجد اعتصام! فقاطعني في ارتباك شديد: أمهلني نصف دقيقة سعادة المستشار. وما هي إلا ثوانٍ، حتى سمعته يسبّ ويلعن أحداً على هاتفه الآخر! ثم تابع حديثه معي، آسف سعادة المستشار، خلاص، حذفنا الخبر.
فقلت له: أستاذ ماهر! هل عندما اتصلت بك، سببتك أو شتمتك؟
فقال لي: العفو سعادة المستشار، أنت راجل محترم.
فقلت له، ولِمَ لم تتعامل باحترام مع مَن كان معك على هاتفك الآخر؟!
فضحك ضحكة مرتعشة، وتلعثم، ثم أجاب: يا سعادة المستشار هؤلاء أولاد ……..!
فقلت له: على أية حال، هذا أسلوب غير آدمي، والأمر لم ينتهِ بعد. من فضلك، لا تذهب مباشرة إلى ماسبيرو، بل اذهب أولاً إلى دوران شبرا، ثم اتصل بي من هناك.
بعد أقل من ساعة، اتصل بي الأستاذ ماهر؛ ليقول: فعلاً سعادة المستشار لا يوجد اعتصام.
فقلت له: إذاً رتِّبْ لي موعداً الليلة مع الأستاذ إسماعيل الششتاوي (رئيس اتحاد الإذاعة والتلفزيون – ماسبيرو)، والأستاذ إبراهيم الصياد (رئيس قطاع الأخبار الذي يتبع له راديو مصر).
وفي المساء، كنت في مكتب الأستاذ الششتاوي فوجدته في انتظاري بصحبة الأستاذ الصياد.
بعد التحايا والمجاملات، بادرا بالاعتذار عن هذا الخطأ المهني الجسيم الذي وقع فيه محررو الأخبار في "راديو مصر"!
فقلت لهما: لديّ سؤال واحد، إذا كان "راديو مصر" يطلق الإشاعات ضد مصر فماذا أبقى لـ "راديو إسرائيل" كي يقوم به؟!
بدا على الرجلين الخجل والحرج الشديدين! ولا أدري إن كانا تظاهرا بذلك، حتى لا أستمر في لوْمِهِمَا، أم أن هذا كان شعوراً حقيقياً، لكني أردفت قائلاً: أرجو الالتزام بالموضوعية مستقبلاً، ومن ذلك ضرورة "مراجعة أي خبر" على مدار الساعة، فأنتما الإعلاميان المخضرمان تعرفان جيداً أن أي حدث قد يتطور كل ساعة، إن لم يكن كل دقيقة، تنامياً أو تلاشياً. ومن ثم فلا يصح أن يبقى نص الخبر كما هو على مدار اليوم دون مراجعة وإعادة صياغته تبعاً لتطورات الحدث.
كان الرجلان مهذبَيْن جداً، واستجابا لتوجيهاتي، بيد أني كنت أشعر أن الأستاذ إبراهيم الصياد يكاد ينفجر من الغيظ! وقد حاول طول الوقت إخفاء غيظه بابتسامة باهتة، لكنه أخفق!
ليس له من اسمه نصيب
إنه الأستاذ محمد علي خير الذي كان يقدم برنامجاً في "راديو مصر" بعنوان "مصر في ساعة"، وكان يُذاع في "الوقت الممتاز" أو وقت الذروة، وهو وقت عودة المواطنين من أعمالهم إلى بيوتهم. وكان البرنامج ذا صبغة هجومية على الرئيس مرسي، رحمه الله، وعلى الأوضاع بصفة عامة، ولم يكن "خير" ملتزماً بأبسط المعايير المهنية، في أي وقت!
من خلال فريق الرصد الذي شكّلناه في الرئاسة، تعرفت على "خير"، الذي لا يتمتع بأي صفة من صفات المذيع، لا صوتاً ولا أداءً، وفوق ذلك فهو يعاني من "عيب خِلقي" في نطق حرف "الراء"!
بعد الاطلاع على العديد من تقارير الرصد، التقيت (في إحدى زياراتي لماسبيرو) الأستاذ إسماعيل الششتاوي، رئيس اتحاد الإذاعة والتلفزيون، وطلبت منه التنبيه على "خير" بضرورة الالتزام بالمعايير المهنية، فيما يطرح من مواضيع، والرئاسة ترحب بالنقد الذي ينقل الحقيقة والواقع لتعمل على معالجة السلبيات، لكنها ترفض رفضاً باتاً الهجوم أو التهجم الذي يُظهر الرئيس في صورة "العاجز" عن القيام بمهمته التي كلّفه الشعب بها، وإشاعة اليأس من الإصلاح في نفوس المواطنين.
هدأت لهجة "خير" لبضعة أيام ثم عاد سيرته الأولى! فسألت الأستاذ ماهر عبدالعزيز: متى ينتهي عقد "خير" مع راديو مصر؟! فحدد لي تاريخاً، فقلت له أبلغ الأستاذين الششتاوي والصياد بأن عقد "خير" لن يُجدد! بمعنى آخر، فأنا لم أفسخ عقد "خير" تعسفياً، ولم أصادر "حرية الرأي"، ولم أضطهد "إعلامياً" يؤدي دوره "التنويري" حسبما يتصور، وإنما استخدمت "حق الدولة القانوني" في عدم تجديد العقد لمذيع غير مسؤول، "يُضلل الشعب" ويشيع فيه اليأس والإحباط عن سابق قصد وتصميم.
طلب الأستاذان الششتاوي والصياد لقائي، وكان اللقاء محاولة منهما لإثنائي عن قراري بعدم تجديد عقد "خير". فرفضت طلبهما رفضاً قطعياً. وكان مما قلته لهما: لقد قلت لكما غير مرة إن الرئاسة ترحب بالنقد ولا تقطع ألسنة المهاجمين، وإذا كان "خير" يريد مواصلة هجومه على الرئيس فليتفضل، ولكن ليس من "راديو الدولة".. لا تجديد للعقد!
كان تجديد عقد "خير" أو عدمه منوطاً بالمستشار القانوني لمعالي وزير الإعلام الأستاذ صلاح عبدالمقصود. ونما إلى علمي أن الأستاذين الششتاوي والصياد لم يتوقفا عن السعي لاستمرار "خير" في بث إرجافه! ولم أشأ أن أدخل في نقاش مع وزير الإعلام؛ حتى لا أضطره إلى التراجع عن قراره، إذا ما قام بتجديد العقد تحت إلحاح الششتاوي والصياد؛ لأن هذا التراجع (إن حدث) فسينال من هيبة الوزير لدى مرؤوسيه. لذا أوعزت إلى الرئاسة باستدعاء الوزير لاجتماع عاجل، فحضر إلى قصر الاتحادية مشكوراً.
اجتمع ثلاثتنا، معالي الوزير، والمستشار (ع م)، وكاتب هذه السطور، وناقشنا الوضع الإعلامي برمته، وكان من بين المواضيع المطروحة عدم تجديد عقد "خير"، ولم ينته الاجتماع إلا بعد أن اتصل معالي الوزير بمستشاره القانوني، وأبلغه قراره بعدم تجديد عقد "خير".
ما لم يتوقعه "خير" مني
بعد فترة لم تتجاوز شهراً اتصل بي صديق يخبرني بأن مدير إحدى الوكالات التي ترعى البرامج الإذاعية والتلفزيونية يريد مقابلتي لمناقشتي في أمر محمد علي خير، وإمكانية السماح له بتقديم برنامج جديد في "راديو 9090" (الذي أنشأته المخابرات قبل الانقلاب بأسابيع معدودة). فقلت له: يتفضل، أهلاً وسهلاً.
زارني مدير الوكالة الإعلانية بصحبة صديقي. كان شاباً مهذباً لبقاً، تجاوز الأربعين بقليل. تحدث إليَّ، طالباً العفو عن محمد علي خير، ومنحه فرصة أخرى، ووعدني بأنه سيلتزم بكل "توجيهاتي".
فأجبت الشاب مبتسماً: أنا لم أضطهد "خير"، ولم "أقطع عيشه" كما يتصور هو، أو تتصور أنت، وقد منحته فرصه؛ لكي يُحسِّن من أدائه المهني، ويلتزم الموضوعية في طرحه، لكنه أو مَن يحرّكه لم يستطع صبراً على "الموضوعية". وما قمت به هو إجراء منطقي وطبيعي جداً في إطار (القانون)، ولأن الأمر كذلك، فليس عندي مانع من عودة "خير" شريطة الالتزام بالمهنية والموضوعية في الطرح.
تهلل وجه الشاب الأربعيني، وشكرني بشدة، واستأذنني في معاودة الاتصال بي، فأذنت له، ثم ودعني وانصرف، وبقي صديقي الذي بادرني مندهشاً: لم يدر بخلدي ولو للحظة، أنك ستسمح بعودة "خير"! فقلت له مبتسماً: "خير" ليس "المناوئ" الوحيد، وإبقاؤه عاطلاً عن العمل سيدفع ضريبته أولاده وزوجته ومَن يعول! أما قراري هذا الذي أدهشك، أو أزعجك، فسأسجله يوماً كي تعرف الأجيال القادمة كيف تعامل الإخوان "الإرهابيون الإقصائيون" مع خصومهم ومناوئيهم، حينما كان بإمكانهم "التنكيل" بهم عدلاً لا ظلماً.
بعد يوم أو يومين، لم أعد أذكر، اتصل بي الشاب مدير الوكالة الإعلانية الراعية لبرامج راديو 9090، ونقل إليّ رغبة "خير" في زيارتي؛ ليشكرني على الفرصة التي منحتها له، فحددت له موعداً.
حضر "خير" متأخراً عن موعده نحو 20 دقيقة بصحبة أحد رجال "أرض الحرس" كما هو المعتاد مع كل الضيوف. فبادرني من على باب المكتب بعبارات الأسف عن التأخير بسبب الزحام الشديد. فسألته قبل أن يجلس: هل أنت معتاد السير في هذا الطريق؟ فأجاب: نعم معتاد، وأسير فيه يومياً تقريباً. فسألته مجدداً: يعني صرت خبيراً بأحوال هذا الطريق، في كل الساعات، وفي كل الأيام؟ فأجاب: نعم. فطرحت عليه سؤالي الثالث: ورغم خبرتك بأحوال الطريق، أتيتَ متأخراً نحو 20 دقيقة؟ فأخذ يجدد اعتذاره، فقاطعته قائلاً: أنا لا أسألك كي تعتذر، بل أناقشك، وإليك سؤالي الأخير: لقد تأخرت عن موعدك، رغم خبرتك الطويلة بأحوال الطريق، في كل الأوقات، فماذا عن الرئيس مرسي الذي يسير في طريقه هذا لأول مرة؟! ماذا تتوقع منه؟! وإذا كنت تطالبني بأن أعذرك في التأخير فلِمَ لا تلتمس العذر ذاته للرئيس، أو تحاول أن تفهم أو تعرف ماذا يعيق الرئيس، وما التحديات التي تواجهه، وكلها تحديات موروثة عن أسلافه، ولم يكن سيادته سبباً في أي منها؟! فصمت "خير"، وطال صمته! ولم أستحثه على الإجابة، بل تركته حائراً، لا يدري ماذا يقول. ثم أشفقت عليه، وقلت له: تفضل بالجلوس.
شكرني، وظل يشكرني، على أني منحته فرصة جديدة، وأنه لم يكن يتوقع ذلك أبداً.. فقلت له: يا أستاذ "خير" أنا لم أكن أنكِّل بك يوم رفضت تجديد عقدك مع "راديو مصر". ولكني رحمت الناس من "سمومك" التي كنت تنفثها بغير حساب كل يوم، مستغلاً حالة السيولة التي تمر بها البلاد! وألقيتُ عليه درساً في أصول المهنة، وكان من بين ما قلته له: إن كنت تتصور أن ما تقوم به هو "الوطنية" فدعني أشرح لك ما هي الوطنية التي تتغنى بها ولا تعرفها، وبعد نحو ساعة سمحت له بالانصراف.
أثناء كتابة هذا المقال خانتني ذاكرتي فلم أستطع تذكر اسم البرنامج الذي كان يقدمه خير من راديو مصر، فلجأت إلى السيد "جوجل" أو "قوقل" الذي فاجأني بخبر منشور في صحيفة الوطن بعنوان "محمد علي خير يوقف برنامجه على "راديو مصر" الأحد وينتقل لإذاعة أخرى"، وهي رواية "خير" التي اختلقها اختلاقاً كما كان يفعل في برنامجه "مصر في ساعة"، أراد أن يحفظ بها ماء وجهه الذي لم يكن أحدٌ يعرف، حتى كتابة هذه السطور، أنه أراقه بالفعل في مكتبي بـ"أرض الحرس"!
أحمد عبدالعزيز هو المستشار الإعلامي للرئيس المصري الراحل محمد مرسي
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.