معنى أن تكوني نادلة في ملهى ليلي.. ليلة عيد الحبّ المملّة؟

عدد القراءات
5,589
عربي بوست
تم النشر: 2020/02/18 الساعة 14:28 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/02/19 الساعة 14:00 بتوقيت غرينتش
معنى أن تكوني نادلة في ملهى ليلي.. ليلة عيد الحبّ المملّة؟

تعمّدتُ في تلك الليلة على وجه الخصوص أن أبتسم للصبايا فقط. لم أرد أن تعكّر ابتسامتي الصفراء الأجواء. فغالباً ما أواجه في عملي نساء غيورات، يعتبرن أني أريد السطو على شريكهنّ لأني ابتسمتُ له، وأنا أسجّل لائحة الطعام والمشروب التي يطلبها. مع العلم أني أبتسم غصباً عنّي، ولا تعدو الابتسامة كونها إحدى أدبيّات عملي. تلك الحركة الكريهة التي تعلّمتها وتمرّنتُ عليها، حين بدأت العمل كنادلة.

بدأتِ السهرة مع أجواء حبٍّ عارمة. صُداع من كثرة الحُب: تلك تسترق النظر إلى هاتف شريكها، الذي لم يتركه للحظة. ذاك يسترق النظر إلى صبيّةٍ تجلس قبالته، في الوقت الذي تحاول حبيبته لفت انتباهه. هذا الذي ينتظرني أن أمرّ أمامه، ليرفع كأسه عالياً ويشرب نخبي – وهو ينظر إلى المساحة الظاهرة من معدتي بين الـ Crop-Top والتنورة التي أرتدي – مع أنه يجلس مع امرأة جميلة ومرحة، كما يبدو لي. هناك على البار، يُشير صديقي إلى أن تلك الصبيّة التي ترقص وحدها غريبة الأطوار. ربما لأنها أوحت له أنها لا تبحث عن رجل، بل عن بعض المرح. الطاولة الأقرب إلى قلبي، كانت تلك التي تجلس إليها صبيّتان، اصطحبتا والدتهما إلى الملهى للاحتفال بعيد ميلادها، الذي يصادف الليلة؛ لكن لم يتسنَّ لهما أن تحضرا قالب حلوى لتطفئ الشمعة وهي تفكّر بأمنية العام الجديد. ففعلنا ذلك، الزملاء وأنا، عوضاً عن الفتاتين. من قال إن عيد الحبّ يحتفل به العشّاق حصراً؟

في القرون الوسطى، ‏اعتادت أوروبا الاحتفال بعيد القدّيس فالنتاين (الذي يُعتقد أنه قُتل في عام 269) من خلال طقوس عبادةٍ بدائيّة، في ليلةٍ كلّ شيءٍ فيها مُباح. فقد كان من حقّ المرأة مثلاً التخلّي عن حبيبها – والعكس صحيح – ليمضي كلّ واحدٍ منهما ليلة صاخبة، مليئة بالفرح والرقص والشرب والاستسلام لطقوس اللذة؛ على أن يعود كلٌّ إلى شريكه في الصباح.

لاحقاً، ومع قيام منظومة القيم البطريركيّة وفرض الشريعة "الأخلاقيّة"، أصبح الاحتفال بتلك الليلة يجري في ظلّ حبيبٍ واحد أحد لا يمكن اشتهاء سواه. ثم جاء اقتصاد السوق، ليحوّل التجّار الأمريكيّون هذه المناسبة إلى نزعةٍ استهلاكيّة وحدثٍ معاصر في منتصف القرن التاسع عشر. فأصبح الدبدوب الأحمر رمز عيد فالنتاين، وباتت ليلة العيد تقليديّة، يتبادل خلالها الحبيبان الهدايا، ويمضيانها في أحد المطاعم، يغنّيان ويرقصان مع مشروب مفتوح، ثم ينهيانها على وقع ممارسةٍ مملّة للحبّ.

لا يعنيني عيد الحبّ. لم يعنِ لي يوماً. حاولتُ الاحتفال به مرّةً، فتلقّيتُ صفعةً مدويّة، حين اكتشفتُ في الليلة نفسها أن من كنتُ أظنّه حبيبي دخل في علاقةٍ جديدة، قبل أن يقطع علاقته بي. 

مع ذلك، لم أغيّر موقفي. ما عدتُ فكّرتُ بالاحتفال به لاحقاً، لكني لم أكرهه، كما لم أحبّه. وأدين بذلك للسخرية. لم أكن لأتخطّى تلك الصفعة، لولا أني "ضحكت على خيبتي" بعد النحيب عليها، وعلى الواقع الذي كنتُ أتوقّع أني أعيشه. المجدُ للسخرية، الملجأ الأول الذي نحتمي به للعلاج من اضطراباتنا.

الرابع عشر من فبراير الجاري، أمضيتُه وأنا أستقبل العشّاق "اثنين اثنين" في الملهى، حيث أعمل كنادلة ليلاً في بيروت. عملٌ جديدٌ عليّ، أنا القادمة من عالم الصحافة وإعداد البرامج. جديدٌ بالأخصّ على شخصيتي الانطوائيّة، التي تكره التواصل مع البشر عموماً. فأنا أعيش بين الأغاني والأفلام والكتب، أكثر ما أعيش بين البشر. وربما لذلك، أعتبر أني ما زلتُ أنجو – حتى اللحظة – من الحياة. لكني ها هنا صامدة في عملي الجديد، وبشكلٍ مفاجئ، منذ عامٍ ونيّف، رغم التعب النفسي والجسدي، بمساعدة الزملاء وأصحاب العمل.

التعامل مع الناس ومزاجيتها متعب. هذه السيّدة لم يعجبها المكان المحجوز لها، وتريد أن ندبّر لها مقعداً آخر في الحال. لكن مهلاً، "المكان كلّه محجوز مدام". ذلك الرجل يريد أن يشرب النبيذ بكأسٍ كبيرة، "ليس لدينا كؤوس كبيرة أستاذ". فيتذمّر طيلة السهرة. تلك الآنسة ترغب في تناول أطيب وجبةٍ نقدّمها. "ما رأيكِ بالكعكة"؟ أسألها. "لا أريد أن أتناول وجبة دسمة في المساء"، تجيب. "طيب، ما رأيكِ بالسوشي"؟ "كلا. لا أحبّ السوشي. أنتِ لا تساعديني".

الأمثلة في هذا الإطار لا تُحصى؛ إلا أن المشقّة وسط كلّ ذلك، أنه يتعيّن عليّ أن أبقى مبتسمة. لكن عموماً، ورغم ذلك، تتحوّل الناس إلى كائناتٍ لطيفة بعد الكأس الثالثة تقريباً. هي لا تريد سوى الاستماع إلى موسيقى لطيفة، وتناول طعام لذيذ في جوٍّ لذيذ، وسط كلّ الضغوط التي تعيشها في هذه البلاد القاتلة.

بالعودة إلى الرابع عشر من فبراير الجاري، لم تتغيّر طبيعة الناس. تغيّرت المناسبة فقط. المناسبة المملّة، التي تحوّلت إلى فرضٍ، على الحبيبين الالتزام به، وإلا خرجا عن القواعد التي فرضتها المنظومة الاجتماعيّة، أو السيستم. وصلتُ إلى العمل في السادسة مساءً، وأنا أتمنى أن تمضي هذه الليلة البلهاء بسرعة، وألا أملّ من مراقبة العشاق وهم يتبادلون الحبّ. وهذا ما حدث، والحمدُ لضغط العمل، فمن خلاله يمرّ الوقت أسرع ممّا نتخيّل. انتهت السهرة على خير وكما هو متوقّع. كلٌّ يغادر السهرة، و"ما حدا عارف لوين". راهنتُ بيني وبين نفسي أن معظمهم سينامون على وجوههم "طَبّ".

ما هذه العلاقات التقليديّة، والمملّة، يا إلهي؟ هل أنا غريبة، أم أن الناس متشابهون إلى حدٍّ يمكن توقُّع أفعالهم؟

في عيد ميلاده السبعين عام 1975، نشرت صحيفة Le Nouvel Observateur مقابلة مع الفيلسوف الفرنسي جان-بول سارتر، قال فيها: "في حياتي عدّة نساء. على الرغم من أن هناك، كما هو معروف، واحدة فقط هي سيمون دو بوفوار".

سارتر وسمون دو بوفوار

ها أنا ذا، أريد الحرية في حياتي، أنشد الحرية في الحب، من دون "الوقوع" فيه. أبحث عن رجلٌ مجنون، ولو قليلاً. غير متوقَّع، ومنفتح على كلّ الاحتمالات؛ يمكن أن أبني معه علاقة، يقدّس فيها حريّتي وأقدّس حريّته، من دون أن يضيق أحدنا الخناق على الآخر، أو أن "يضيق خلقي يا صبي من هالجوّ العصبيّ"، كما تقول فيروز عن لسان ابنها زياد. هل هذا كثير؟ هل أخدش، بذلك، المنظومة الأخلاقيّة التي رسمها المجتمع الأبوي لنا، وعلينا جميعاً -رجالاً ونساء- الالتزام بها؟

روى سابا هي مدوّنة وكاتبة لبنانية تكتب رفقة عربي بوست

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

رُوى سابا
مدوّنة لبنانية
مدوّنة لبنانية
تحميل المزيد