إنه لمن المحزن والمثير للشفقة أن تطل علينا وفي وضح النهار تلك الخشيبات المحترقة بلهب الحرب وصليل الإستئصال والراقصة ذات ليال شتوية على صراخ النساء والصغار والشيوخ. تطل علينا هذه الخشيبات البائسة ولم يتغير في وجدانها غير كثافة الفيض المختزن من الغل والحقد لكل جزائري أصيل لتلقي علينا خطاب إبليس في الجنة ولتحاضر بصوت مزيف ومخادع في الوطنية والقيم العالية والمبادئ الشامخة شموخ أغصان الزيتون. وكيف للخشيبات أن تطال هذه المحاسن وقد رضيت من قبل أن تكون تبغاً متعفناً لأباطرة الحرب والإجرام.
إننا اليوم أمام مفترق طريق غامض وعويص وكثير الالتواءات والتفاصيل، نجد أنفسنا مجبرين على تقرير الحقيقة كما هي في الواقع دون مزايدات ولا بيع للأحلام والأوهام ولا النفخ في الاختلافات العرقية والإيديولوجية ولكل شخص الحق في اعتناق ما يراه صائباً بالشكل الذي يحفظ مشروع الدولة الوطنية وتجيزه النظم العقائدية والأخلاقية التي ارتضاها الشعب الجزائري حاضراً وماضياً. ولا شك أن حتمية التغيير السياسي حاصل حادث لا مفر منه، ولكن كيف سيكون هذا التغيير بما يحفظ المكتسبات التاريخية للثورة المجيدة والمسار القصير والمحتشم لمشروع الدولة الذي تخللته خلافات وصراعات بين الإخوة الأعداء وبين الطموحات السياسية التي جعلتنا ندفع الثمن غالياً نحن الأجيال المتعاقبة.
لقد كان خروج الجزائريين في 22 فبراير/شباط، بمثابة ميلاد جديد لأمة كادت أن تمحى من الوجود لولا التدافع وإرادة المخلصين. في 22 فبراير خرج كل جزائري من الغيبوبة التي عاث فيها وصرخ طويلاً للوطن وللمستقبل وللحرية وتلاحمنا كالجسد الواحد وكان الفهم عميقاً بضرورة المضي قدماً نحو المصير المشترك والمزدهر. حتى حدث الاختراق الذي ينتظره النظام ويترصد حدوثه ولا أعرف إن كان بريئاً إقحام المسألة الأمازيغية والبعد الهوياتي في الحراك الذي تجلى في أسمى مظاهره وبنقاء وملائكية رهيبة إلى أن جاءت تلك اللحظة التي فككتنا شيعاً وعرباً وبربراً وقبائل، لم يكن أحد ينتظر دخول هذا المتغير الجديد والمتفجر بطبعه، رغم معرفة الجميع بأن النظام لطالما لعب بورقة الهوية لتقسيم المقسم وإحياء الطقوس الكولونيالية التي خاطبت الجزائريين كعروش وقبائل متناحرة وإنعاش النزعات العصبية والعقد التاريخية المكبوتة. وقد وجد من ينقذه من غرقه وبدت الرايات المختلفة في ساح البريد المركزي كغيوم سوداء متلبدة تخفي في أغوارها أكثر مما تبدي وتعلن بداية التشظي في لحمة الوطن الواحد وانطلقت وسائل الإعلام في تغطية غير مسبوقة لهذه التفاصيل الجديدة التي لم يعرها المتظاهرون الكثير من الأهمية، ولكن السلطات وجدت أخيراً القشة التي تتعلق بها وفي هذه اللحظة بالذات خرج الخطاب الرسمي مستنكراً العبث بالوحدة ومهدداً كل من تخول له نفسه المساس بالسيادة ورموزها، وحدث استنفار رهيب في القنوات الخاصة والعمومية وبين رواد شبكات التواصل الاجتماعي. وبدأ يتسع ذلك الشرخ الرفيع في أوساط الحراكيين وكأن حريقاً بدأ يشتعل وانحرافاً واضحاً في مطالب وشعارات المظاهرات التي تحولت بين ليلة وضحاها من قضية وطنية جامعة إلى صراع هوياتي بنفس سياسي وثقافي يتعلق بالمسألة الأمازيغية. والتي أجزم أن أغلب الجزائريين قد تجاوزوها إلى قضاياهم الحقيقية والمتعلقة بالعدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية وبناء دولة ذات سيادة كاملة غير منقوصة.
أزمة الهوية الجزائرية بين الانفعال والافتعال
لم تكن الهوية الجزائرية مثار صراع أو لغط حاد في الأمة الجزائرية التي اكتملت هويتها في اللحظة التي تم فيها تحرير بيان الفاتح من نوفمبر المظفر والذي أكد على البعد الإسلامي والعربي. وإن كان بيان الفاتح نوفمبر ليس مبتوراً على النضالات الجسام التي بذلها أعلام وعلماء الجزائر في ترسيخ عناصر الهوية الأصلية للجزائريين والتي ارتضتها الأمة الجزائرية والمغاربية قاطبة وسقطت دونها. فلا يستطيع جاحد أو عدو أن ينكر الجهود التي بذلتها جمعية العلماء المسلمين في تلقين الأجيال أبجديات اللغة والعقيدة الصحيحة والتمسك بمعالم الوطنية الجزائرية التي شارف المستعمر الفرنسي على سحقها وتذويبها بمعاونة نخبه وأدواته. ولعل الشيخ عبدالحميد ابن باديس هو أول من جاهر بالوطنية الجزائرية عبر صفحات جريدة المنتقد ورغم التشويه الذي طال أبناء جمعية العلماء المسلمين والشيخ ابن باديس في سعيهم الحثيث في الحفاظ على خصوصية الأمة الجزائرية إلا أن الأرشيف والتاريخ أنصف ولو قدراً ضئيلاً من هذه الجهود. وقد جاء في بيان أول نوفمبر التدليل بشكل واضح وصريح على البعد والعمق المغاربي والعربي، وهو ما انعكس على العلاقات الممتدة بين جيش التحرير الوطني وبين الدول العربي التي دعمت الثورة سياسياً وعسكرياً وإعلامياً. وهو الأمر الذي أدى الى تحقيق نجاحات مهمة في العام الأول للثورة، إلى أن يأتي مؤتمر الصومام والذي شكل مفترق طرق ومهد لصراعات فكرية وأيديولوجية أدت إلى صراع الزعامات وحرب الإخوة الأعداء، ولكن البند الخطير الذي أقره المؤتمر هو أولوية الداخل على الخارج مكرساً بذلك بتر العلاقات بين الأنظمة العربية وخاصة مصر وجبهة التحرير الوطني، وهو أول مؤشر على التفكك في الإجماع الذي كان واقعاً حول الهوية الوطنية الجزائرية. لعل الظهور الأول للثنائية الهوياتية في الجزائر كان جلياً ومتفجراً في أحداث الربيع الأمازيغي سنة 1980، والتي طالبت فيه النخب والمجتمع المدني في منطقة القبائل بالاعتراف الرسمي بالهوية الأمازيغية وترسيم اللغة وتكرر الأمر في 2001 مع حدوث صدامات عنيفة بين المحتجين والسلطة، ولكن بقيت هذه المطالبات منحصرة في مناطق جغرافية بعينها دون أن تمتد إلى باقي الوطن، ولم تستطع أن تفعل ذلك طيلة المدة الماضية.
لا شك أن السلطة كانت تستفيد من هذه الإشكالية الثقافية بل ساهمت في تحويلها إلى فزاعة سياسية تستعملها كلما ضاق عليها الخناق وأدركت أن الغضب الشعبي قد بلغ أشده، وبالتالي لم تكن أزمة الهوية في يوم من الأيام مشكلاً يؤرق الجزائريين بقدر ما كانت البطالة والفقر والفساد والتهميش تنخر عظامهم وتنهشهم نهشاً.
هل استطاعت الهوية وصراعاتها أن تنقذ الآلاف من الأدمغة التي غادرت البلاد دون رجعة؟ هل استطاعت الهوية أن تنعش الاقتصاد الوطني وتخرجه من مرض التوحد الذي يعيشه منذ الاستقلال، وهل أنقذت الهويات والتناطح الهوياتي الجامعات الجزائرية من الانجراف والانحراف والانعطاف إلى المجهول؟
إن قضية الهوية سوق كبير للمتاجرة والبيع بالتقسيط وأحياناً بالجملة وما يزيد من غرابة هذا الملف أن أغلب المناضلين في هذا الملف استطاعت السلطة أن تستوعبهم في وقت لاحق ويكونوا طرفاً شرساً مدافعاً عن تصوراتها.
سقطت كل الأحلام التي تشبعت بها الشعارات وتغنت بها الحناجر لمجرد أن أحدهم حاول التفرد عن الآخرين والعودة إلى الماضي السحيق حيث الأسطورة والأصنام والاحتراب والثارات. لتتفجر موجة من الشك والحيرة في صفوف الحراكيين الذين كانوا جسداً واحداً لمجرد أن أحدهم رفع شعار القبيلة ورتل قصائد الجاهليين عن الزعامة والسيادة وما كان للشعب أن يعود أدراجه لو أن الوطنية وخطابها الجامع هما اللذان استعصمت بها القلوب، ولكن شاءت الأقدار أن يتحول الحراك الوطني الى ربيع أمازيغي ثالث استعملته السلطة باحترافية عالية وتوقفت إنجازات الحراك الشعبي على إثرها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.