إن الوضع البائس الذي آل إليه الحقل الصحفي اليوم بالجزائر يتطلب طرحاً لأسئلة قلقة، ويستوجب نشراً للغسيل، ودقاً لناقوس الخطر، فهذه المهنة التي تفقد بريقها يوماً بعد آخر باتت مهددة بالزوال، بفعل غياب أدنى ظروف الممارسة السليمة واتساع رقعة الرداءة وابتعاد منتسبيها عن موضع المهنية والاحتراف، فهذا الحقل المبني -من المفترض- على النضال من أجل نقل الحقيقة وصوت المواطن والوقوف في وجه السلطة السياسية، حادَ عن مساره، وأصبح يتعرّض للتدنيس لأسباب وخلفيات عديدة ومختلفة، والنضال في الحقل الإعلامي لا يتشكل إلا بفعل رصيد من التراكم المعرفي والمسار الحياتي للصحفي، وفي النهاية لا يتخذ الصحفي في علاقته بالسلطة طابعاً آخر غير الرقيب والمهيمن، على اعتبار أن رجل الإعلام المحسوب في الأصل على الأنتلجنسيا يحظى بمكانة رفيعة وبدور كبير في المجتمع، ويمتلك سلطة صناعة الواقع وأدوات تغييره.
والحقيقة أن الصحفي في الراهن يتجه نحو اختيار طابع الخاضع على حساب المهيمن، عندما بات يتخلى تدريجيًّا عن دور الرقيب والناقد، ويتخندق بثوب الخانع لمخططات السلطة الرامية لتطويعه بما يخدم وجودها واستمرارها، وقد نجحت إلى حد بعيد في مسعاها هذا، فتحولت المؤسسات الإعلامية من فضاءات ومنابر للرقابة والمساءلة إلى دكاكين لعرض خدمات النظام بمقابل الإشهار وأحياناً بالمجان من باب التودد والتزلف، فالبيئة الصحفية اليوم أصبحت موبوءة، لأن الصحفي لم يعد قادراً على نقل رسالة سليمة وصادقة للجمهور بسبب ما أصابه من تمزق فكري وأخلاقي في ظل الغطاء الثقيل من الضغوط السياسية والاقتصادية والظروف الاجتماعية والمهنية.
الملاحظ لعلاقة الصحافة بالنظام السياسي يدرك حجم التطور الحاصل على مستوى أفكار الخضوع والانصياع والتطبيع، المنغرسة في اللاوعي الجمعي للكثير من المنتمين لهذا الحقل منذ سنوات، بفعل ممارسات التعنيف والترهيب والتضييق وسياسات القمع وتكميم الأفواه، فلم تعد علاقة الصحافة بالسلطة السياسية علاقة ندية أو علاقة من يملك سلطة مع من يحوز سلطة موازية، كما لم تعد علاقة حميمة وألفة أيضاً بين الطرفين، بفعل فوبيا العقاب التي تتملك الصحفي، فهذا النظام الذي عقد قرانه مع الصحافة من زمن لم يعد قادراً على التكفل بحاجياتها ومتطلباتها وصيانة كرامتها، فسقطت الجلالة عن صاحبتها وباتت لا هي قادرة على الخلع ولا على تقديم خدمة في المستوى للنظام، فنجم عن هذا الوضع ولادة قيصرية لمحتوى مشوّه يقترب من التضليل والرداءة، ويبتعد كثيراً عن الحقيقة والجودة.
ففي الوقت الذي كان يجب فيه على الصحفي أن يكون متشبعاً برأس مال ثقافي رفيع ينعكس على ممارساته المهنية اليومية، ويحمل قيّماً نبيلة يزرعها في المجتمع الذي ينتمي إليه، ويحرص على توظيف قلمه في محاربة كل أشكال الفساد، فيكتسب مع مرور الوقت سمعة وصورة الصحفي المحترف أو المثقف الملتزم أو الصحفي النجم، أصبح بفعل جهله لدوره وظروفه الاجتماعية والمهنية المتدنية وابتعاده عن أخلاقيات المهنة وتخليه عن التزاماته ومسؤولياته كائناً هجيناً تتآكل قيمته الرمزية يوماً بعد آخر، وإن كان هذا الوصف لا يمس جميع الصحفيين فإنه ينسحب على الكثيرين.
فالمتأمل في وضعية الصحفي السوسيومهنية يدرك حجم الخزي الذي لحق بها، سواء من ناحية الأجر الذي لا يبتعد كثيراً عند بعض الصحفيين عن الحد الأدنى للأجر الوطني، أو من ناحية الصعوبات والعراقيل التي يواجهها في الوصول إلى مصادر الخبر، وحرمانه بمطرقة التخويف من حقه في معالجة الأخبار بحرية، بدفعه للتفكير بعقل الرقابة الذاتية، كما أن بعض المؤسسات باتت تتحايل على الصحفيين في مسألة التأمين، وتشغّل صحفيين من دون عقود عمل أو بتحايل في العقود، وهذا دون أن نغفل سلسلة الاعتقالات غير المبررة التي تلاحق الصحفي، والخطر الذي يحدق به بسبب غياب الفضاءات المخصصة لعمل الصحفيين، وعدم توفر أدنى شروط الحماية لتأدية مهامهم، وكل هذه الظروف القهرية تشكل ضغوطاً نفسية على العاملين بالقطاع، وباتت تحصد العديد من أرواح الصحفيين.
وهذا الوضع المزري الذي آل إليه الصحفي في الجزائر نابع بدرجة أولى من تغوّل النظام ونظرته الدونية للقطاع، ثم من هشاشة تكوين الصحفي على جميع الأصعدة، وغياب واضح لنقابات قوية تدافع عن حقه، وارتماء العديد من الدخلاء في حضن الصحافة، بحثاً عن المال والشهرة وعرض الأزياء، حتى أصبح الصحفي لا ينبس ببنت شفة عندما يحرم من أجره لمدة تفوق ستة أشهر، وآخر يصاب بالعمى عن زميله الذي زجّ به في السجن لنفس المدة دون محاكمة، وصحفي آخر يقبل بأن تتقاضى عاملة النظافة في "الدكان" الذي يعمل به أجراً أفضل منه، بل قد لا يبتعد راتب "حارس الباب" بالمؤسسة كثيراً عن راتب "حارس البوابة"، وكذلك الفارق بين راتب الصحفي الحامل لشهادة جامعية وراتب السائق الموظف برخصة قيادة!.
ولا يمكن تفسير هذا الوضع المخزي للصحفي في البلد دون الإشارة إلى الدورات الصحفية التي باتت تجعل من أيّ أحد كان صحفياً في ظرف ثلاثة أيام، والجامعة التي لا توفر لطالب السمعي البصري، على سبيل المثال لا الحصر، أجهزة ليسمع ويبصر، وتركيزها في البحوث على الجمهور والرأي العام على حساب القائم بالاتصال (الصحفي)، والتوظيف العبثي الذي يرتكز على الواسطة وأولوية الجنس اللطيف على الخشن ومنطق المصاهرة والقبيلة، دون اللجوء إلى مسابقات شفافة، أو مراعاة لأدنى معايير التوظيف، إلى جانب التهميش والإقصاء الذي يطال الكفاءات في الميدان وسيطرة الدخلاء والوصوليين والانتهازيين على مناصب المسؤولية في المؤسسات الإعلامية، والترقية التي تتم بحسب درجة إتقان فن الوشاية والتودد للمسؤول، وهذا الوضع غير الصحي -وما خفي أعظم- لا يمكن أن ينتج إلا صحفياً مزكوماً بداء الرداءة واللاشرعية، فيفرز العدوى بمحيطه، ويُرمى بنظرة الاحتقار من السلطة، ويُقذف بأسهم التخوين من المواطن، ويغفو تحت وطأة تأنيب الضمير من الذات.. فهل يوجد بؤس أشدّ من بؤس الصحافة هذا؟!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.