ماليزيا.. الآخر المسلم الذي لم أعرفه

عربي بوست
تم النشر: 2020/02/17 الساعة 15:22 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/02/17 الساعة 15:39 بتوقيت غرينتش
ماليزيا

ثلاث سنوات هي رحلة تعرُّفي على ذلك البلد المسلم الكائن في جنوب شرقي آسيا، ويمثل جزءاً أساسياً من تكتُّل بشري يضم نحو 30% من تعداد المسلمين حول العالم..  تلك الرحلة توشك أن تنتهي.. إلا أن الآفاق التي فتحتها أمامي تبدو بلا نهاية.

كان أول ما لفت انتباهي عندما وطأت قدماي الجامعة الإسلامية في العاصمة كوالالمبور، في مثل هذا اليوم منذ ثلاث سنوات، هي تلك الابتسامة والسلام الذي يغمر الوجوه..  تلك المجموعات الطلابية التي تجلس هناك في ساحة الجامعة لتعزف الموسيقى على آلات تقليدية جذابة.. وقد افترشوا أرض الحديقة المكسوة بالعشب، على جانب ذلك المجرى المائي المتدفق في نعومة تسبح به بعض الأسماك، ويتحرك فيه ذلك الكائن الأشبه بتمساح صغير ذي لسان مشقوق.. ثم ما يلبس أن ينتقل إلى اليابسة لأتفاجأ به قريباً من قدمي، وما إن فزعت حتى فزع بدوره وانسحب بهدوء مرة أخرى إلى المجرى المائي.

فتيات محجبات يقُدن الدراجات البخارية أو العادية في أرجاء الجامعة وقد غطت رؤوسهن الخوذات السوداء والحمراء والصفراء..  أخريات عائدات من نادي الطالبات بالجامعة يرتدين ملابس التايكوندو والكاراتيه.

قادتني قدماي إلى ذلك النادي لأشاهد ماذا يفعلن.. انتشرت الموسيقى الصاخبة من أحد الممرات.. تسللت لأرى أولئك الفتيات اللواتي يمارسن الزومبا، ما بين إفريقيات وماليزيات وصينيات وأوروبيات، مع تلك المدربة الخمسينية الرشيقة، فيما خمرهن وعباءاتهن معلقة على الجدار بانتظار الانتهاء، وأخريات في صالة الجيم مع ملكة جمال جامعاتنا صاحبة البشرة الإفريقية السمراء والقوام الممشوق والشعر المجعد.. وهي الملامح التي غيَّرت تفكيري عن مقاييس الجمال التي اعتدتها حيث أتيت.

في حمام السباحة وسط الغابة الخضراء وتحت السماء التي تظللنا بقبة زرقاء تتوسطها شمس استوائية ساطعة، راحت الفتيات يسبحن بملابس ملونة تغطي معظم أجسادهن إن لم تكن كلها، وفقاً لتقاليد الجامعة، بالرغم من عدم وجود أي رجال في الأرجاء.

داخل الفصل الدراسي، كانت أول محاضرة حيث جلست على رأس الطاولة المستديرة، أستاذتنا المخضرمة بصوتها المنخفض ولكنتها الماليزية الواضحة "أوكيه لا"..  حيث تختتم كل جملة بكلمة "لا"، وثقتها الممزوجة بالتواضع، وحزمها المختلط بشعور أمومي غريب، يجعلك تهابها وتحبها في الوقت ذاته. فالأستاذة السبعينية لديها طاقة للعمل والعطاء ومتابعة التفاصيل لا تنفد.

كنت العربية الوحيدة وسط نحو 10 طلاب اصطفوا حول المائدة، وفي مواجهتي جلست فتاة بملامح تبدو عربية كذلك بحجابها ونظارتها وبشرتها الخمرية الأقرب للبياض، وأخرى أفريقية منتقبة، وشاب أفريقي كذلك، حين بدأت أستاذتنا تسأل كل منا ليقدم نفسه. وما إن جاء دور الفتى الإفريقي النحيف الطويل الخجول، حتى ارتجف صوته وتلعثمت إنجليزيته، فقاطعته أستاذتنا طالبة منه عدم العودة إلى مادتها حتى يتقن الإنجليزية، فخرج ولم أرَه بعدها أبداً، وهنا أُسقط في يدي، فلا ثقة لي مطلقا بإنجليزيتي العرجاء، التي رغم ذلك ساعدتني في تلك المواجهة الأولى.

أما المساعدة الأهم فجاءتني من الفتاة الجالسة في الطرف الآخر، والتي اعتقدتها للوهلة الأولى عربية، لكنها كانت مكسيكية أسلمت منذ أربع سنوات فقط. شيء لا يعلمه إلا الله ربط بيني وبينها، وكأن مصيرينا تقاطعَا في تلك اللحظة، حين سألت الأستاذة الطلاب أن يكونوا مجموعات عمل بحثية صغيرة، فبادرت جبريلّا بالقول "me and the new student"، كنت أنا هذه الطالبة الجديدة، وكانت هذه اللحظة بداية علاقة لم أحظَ بمثلها منذ عشرين عاماً..  علاقتي بتوأمتي التي وُلدت كاثوليكية..  ولهذا حديث آخر قد أفرد له مقالاً مستقلاً.  

 في داخل الفصل ذاته بدأت أقترب أكثر من زملائي وزميلاتي أصحاب الابتسامة الهادئة التي لا تحمل للحياة هماً، والصوت الخفيض، والأدب الجم، ونظرات التعجب من مجرد إبدائي رأيي في أي محاضرة أو مناقشة الأستاذ أو الرد عليه، فالطاعة التامة تبدو فطرة الماليزيين ونقيض لما فُطِرتُ عليه تماماً.

وخلال مناقشة موضوعات الأبحاث وأفكارها، كان يصيبني الذهول، فهذا مشروع دكتوراه عن السعادة في مكان العمل، وذاك عن الإعلام ونظرة المرأة إلى ذاتها في إطار معايير محددة للجمال، وثالث عن موقع الجامعة الإلكتروني وتأثيره على سلوك التعلم عند الطلاب.. ورغم أهمية هذه الموضوعات بشكل عام، فإنها بدت خارج نطاق الإدراك بالنسبة لمن جاءت مثلي من عالم تتنازعه الحروب والصراعات، ويموت الأطفال فيه برداً في المخيمات، ويُنتهك الإنسان حتى الموت في سجون الطغاة، ويموت الناس فقراً وجوعاً أو انتحاراً بعد أن ملُّوا البحث عن لقمة الخبز في صناديق القمامة، أو يفقد الأطفال حياتهم تحت قصف صواريخ الاحتلال، وتتشوه ملامحهم البريئة بقذائف الفسفور الأبيض.

لم أكن وحدي في هذا الاندهاش، كانت جبريلا معي، فقد أتت من أمريكا اللاتينية، حيث يبيع الأب ابنته لأجل المخدرات، وحيث مرَّت بتجربة تغيُّر كاملة في حياتها، جعلتها تدرك معاناة من يبحثون عن أنفسهم وسط ظلام هذه الحياة، إلا أنها رغم حداثة تعرُّفها على الإسلام، كانت الأجدر مني بالاندماج في هذا المجتمع المسلم الذي لم أعرفه من قبل؛ ربما لخلفيتها الغربية التي جعلت شخصيتها أكثر قدرة على الانفتاح والتجربة وتقبُّل الاختلافات في الطعام والملبس وغيرهما.

على سبيل المثال، استطاعت جبريلا أن تشارك زملاءنا وأساتذتنا الأكل باليد، وأنا لم أستطع فعل ذلك حتى الآن، رغم كون ذلك سُنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورغم حُجة أستاذي الماليزي المخضرم حين قال لمشرفه البريطاني ذات يوم قبل 20 عاماً: "أنا أعرف متى وكيف غسلت يدي، وأنني فقط مَن أَكَلَ بأصابعي الثلاث، فهل تعرف أنت من غسل ملعقتك أو تناول الطعام بها قبلك؟".

في ماليزيا عشت تجارب مختلفة خلال ثلاث سنوات، يطول الحديث عنها، لكن أهم ما انتهيت إليه هو أننا نشأنا في منطقتنا وسط صراعات قاسية، جعلتنا نرى الإسلام من منظور صراعي، فأنا دائماً أناضل لأحيا كمسلمة حتى وسط مجتمع مسلم.. أكافح لأتمكن من تقديم درس ديني في مسجد أو ممارسة أنشطة دعوية بالمجتمع، أكافح لأجد أماكن رياضية مخصصة للمحجبات فقط، وغالباً لا أجد، ولو وجدتها فتكلفتها لا تناسب أمثالي من الطبقة المتوسطة.. أكافح لأمارس حقي في التعبير عن رأيي لتطوير بلدي ومجتمعي.. أكافح لأحصل على عمل.. أكافح لأحصل على مقعد دراسي يناسب اهتماماتي.. كل خطوة طبيعية أمامها ألف عائق وعائق يتضاعف إذا ما قررت الالتزام أكثر بدينك، خاصةً لو كنت امرأة يميزها شكل حجابها. وكان هذا أول تحدٍ سمعته حتى من أهلي عندما قررت الالتحاق بكلية الإعلام بجامعة القاهرة، "هتشتغلي صحفية بالخمار إزاي؟!"، وتلته تعليقات عديد من أساتذتي وزملائي.

لكن هنا في ماليزيا، وتحديداً بالجامعة الإسلامية، تعلمت أن هناك منظوراً آخر لكونك مسلماً.. وهو: كيف تستمتع بالحياة كمسلم؟ وليس كيف تكافح لتثبت فقط وجودك ويُسمح لك بالعيش كمسلم؟

في ماليزيا تأكدت أن هذه الأمة لن تقوم على منظور واحد، وهّابي، سلفي، إخواني، صوفي، إسلامي ليبرالي، إسلامي يساري.. هذه الأمة ستقوم حين يعرف بعضنا بعضاً حق المعرفة، ويتكامل فهمنا لديننا لنجمعه من أطرافه.. نناضل ضد الظلم والهيمنة، كما نمارس الحياة باستمتاع، وكذلك نشارك الآخرين في صناعة الحضارة وتحقيق خلافة الإنسان لله في أرضه..

في ماليزيا تعلمت أنني لست بحاجة فقط للتعرف على الآخر الغربي أو غير المسلم؛ بل للتعرف على الآخر المسلم الذي لم أعرفه من قبل.

ملحوظة: الصور من معرض أُقيم اليوم عن تاريخ ماليزيا وأصول المالايو الذين يشكلون 65% من السكان ويعتبرون أن "المالايو" بالضرورة تعني "مسلم"، وكانت لغتهم الأصلية الجاوية تُكتب بحروف عربية، حيث تضم الصور مخطوطات قديمة للقرآن بأيديهم، وأول نسخة للقرآن في ماليزيا وهي تركية وبالكتابة العثمانية، وكذلك الصحف المالايوية التي قادت النضال ضد الاستعمار.. إنهم باختصار يروون تاريخهم ويميزون وجودهم بتاريخ الإسلام فيهم.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

هبة زكريا
صحفية وأكاديمية مصرية
صحفية وأكاديمية مصرية