كتب إلي صديق سوري:
"حذيفة: أكتب إليك في يومي الأول بعد أن عدت إلى سوريا..
حذيفة: لقد خسرنا كل شيء، ولكن لا شيء يعدل ريح الوطن..
رائحة الدماء تعم المكان، وصوت الأنين ضجيج في الآذان، في كل بيت شهيد ومصاب، وفي كل عائلة مفقود وطريد وشريد، بحثت عن المآذن فلم أجدها وفتشت عن الأشجار فلم أرها، والمدارس فلم أعثر على شيء منها، ذهبت سوريا الأمويين عندما عاثت فيها خيول المجوس والفرس والصفويين، هنا يسود الحزن، ويلتف السواد كل شيء، هنا يحكم الخوف ولكن يا صديقي:
لا شيء يعدل ريح الوطن.. لا شيء يعدل ريح الوطن
لقد عدت يا صديقي عودة باق مقيم معمر، عدت يا صديق وسنبقى هنا، سنبقى ما بقي الزعتر والزيتون، سنبقى ما بقيت قطرة في دمائنا ونفس في صدورنا، لن نتخلى عن سوريا من جديد، هنا سنزرع أنفسنا وسنعيدها فما الأوطان إلا بأهلها وما الأماكن إلا بروادها، وإن نعم الدنيا كلها لا تعدل عندي رائحة تربة هذا الوطن في أنفي.
سامحني فلا أدري إن كنت سأعيش بعد يومي هذا أو ستتخطفني خطوب الدهر ونوائبه، ادع لي وادع لسوريا، إني أتمنى على الله أن يطيل بي العمر حتى أرى سوريا من جديد زاهية بهية بين العالمين ولكني لست خائفاً من الموت، فإن مت فسأموت على هذه الأرض المباركة، ألقى الله في نفسي برد الراحة واليقين، فلا يحزنك أمري حين يصلك خبري..
والسلام .."
لما سافرت إلى بلاد الشرق الأقصى ماليزيا كنت مغتبطاً أشد الغبطة أني سأغادر هذا السجن المفتوح الذي سموه زوراً وبهتاناً "دولة مصر"، فرحاً أعد الليالي والأيام للحظة التي أنظر فيها من الطائرة إلى المربع الذي يتوسط قارتي آسيا وإفريقيا بزنازينه وزبانيته فأبصق عليهم وأقول: شاهت الوجوه، اللهم أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون.
هكذا كنت أظن وبهذا كنت أعتقد ولكن خاب ظني وأخطأت تقديراتي، فأقسم لكم أني أحسست بالاشتياق إلى مصر منذ اللحظة الأولى خارجها.
طيلة الشهرين اللذين قضيتهما خارج البلاد كنت أبحث عن ريح الوطن، وإني لأجد ريحه لولا أن تفندوا وتالله لست في ضلالي القديم. كنت أشعر بالفخر عندما أسمع أحدهم يحكي عن الأزهر أو عن جامعات مصر أو عن علماء مصر أو عن مساجد مصر، كان قلبي يتطاير فرحاً عندما أسمع تلك اللهجة المصرية المميزة تشق طريقها إلى آذاني وسط موج متلاطم من الأصوات الشرقية والغربية. كم رأيت في الأشجار أشجار الوطن، وكم تمثلت لي مصر في الأسواق والأركان والشوارع لأؤكد لكم:
إن لا شيء يعدل ريح الوطن.
اسألوا الذين عاشوا في الحجاز أو نجد أو مناطق الخليج كم رأوا بمصر من النكبات، وكم عاشوا بديارهم من الويلات هل ما زالوا يشتاقون لريح الوطن؟ هل ما زالوا يعدون الأيام باللحظات والثواني حتى يحين وقت إجازتهم؟
مصر، كم رأينا فيك من الهوان، كم ذقنا فيك من العذاب ولكن للأسف بنحب بعض، كم صعد فيك هابط وهبط فيك صاعد، كم ارتقاك عبيد وأذلاء وانخفض فيك أشراف وكرماء، كم وجدنا فيك من المصايب والفقر والمرض والعجز، كم كتب علينا فيك من الابتلاء والخوف والجوع ونقص الأنفس والأموال والثمرات واللعنات والظلم ولكن لم ينزع حبك من صدورنا، لم تمت شدة الشوق لك في قلوبنا، لم تخب جذوة الاشتعال لاسمك ورفعتك في أحلامنا..
يا أيها الوطن، إننا أحببناك لنفسك أكثر ما أحببناك لأنفسنا، قدمنا التضحيات لا لمقابل إلا لرفعتك أفلا تجازينا، ألا نرى الإحسان بالإحسان، أيها الوطن، أحبابك الحقيقيون مكبلون مطاردون ممنوعون من وطء أرضك ويعتليك محتل مخرب مفسد يضمر لك الإفساد والعبث أيجوز هذا؟
فصل القول: حب الوطن فرض على القلب لا فكاك منه ولا شيء يعدل ريح الوطن.
حذيفة الخولي هو مهندس بترول يهوى الكتابة والتدوين في القضايا الاجتماعية والحقوقية وخاصة تلك التي تمس الشباب والطلاب، عضو المرصد المصري لحقوق الإنسان، وصاحب المقال الأفضل على مستوى الجامعات المصرية 2018.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.