أُثير في مٶتمر الأزهر العالمي الحديث عن تجديد الخطاب الديني، ومسألة التراث والتجديد هي محور اهتمام الكثير من المثقفين والباحثين والعلماء والکُتاب، على اختلاف انتماءاتهم الثقافیة والمذهبية. وشكلت هذه المسألة منعطفاً حاسماً في التاریخ المُعَاصر لأمُتنا العربیة والإسلامیة وظهر ذلك جليّاً في مصر، بعد ثورة 25 یناير وبعد فترة حُکم الإخوان المسلمين.
وتعود جذور هذه المسألة إلى زمن أبعد من العقدين الماضيين، إذ يرى الكثير من الباحثین أن نکسة عام 1967 کانت اللحظة التي فجرت هذه القضیة. والبعض الآخر يرى أنها تعود لفترة الحملة الفرنسیة عام 1798، عندما التقت حضارتان متباینتان أشد التباین.
فما المقصود من طرح هذه الفكرة في الوقت الحالي والأمة تعيش عصور الانتکاسات والتشرذم والاضمحلال، والقتل على الهوية والحروب الأهلية؟ وهل التراث الإسلامي لا يزال جامداً لا يحقق المأمول منه، ويحتاج إلى تجديد لمواكبة قضايا العصر؟
وإذا كانت هناك ضرورة لتجديد الخطاب الإسلامي فمَنْ المنوط به القيام بهذا التجديد؟ وما الشروط التي يجب أن تتوافر فيمن يقوم بالتجديد؟
ابتداءً، فإنني لست من العلماء ولست فقيهاً في علم العقيدة، ولكني أرى أن عبارة "تجديد الخطاب الإسلامي" التي يتغنى بها البعض قد حسمها فضیلة الإمام الأکبر (أحمد الطيب) شيخ الأزهر في المٶتمر الذي أسكت وأحرج فيه رئيس جامعة القاهرة، محمد عثمان الخشت، بعد أن دعا الأخير إلى تجديد علم أصول الدين، وتطوير العلوم الدينية وليس تجديدها، ورد عليه شيخ الأزهر أحمد الطيب، قائلاً: "إن الحرب على التراث بذريعة الحداثة هو شيء مصنوع تماماً من خارجنا لتفويت الفرص علينا".
وتحدث الدکتور الطیب عن مفهوم "المطلق" واختلاف المذاهب، ورد على الخشت بتصحيح ما ورد منه عن الفتنة الکبرى ومقتل سيدنا عثمان بن عفان، ثم قال قوله السديد: نحن الآن نجلس هنا وترامب ونتنیاهو یحددان مصیر الأمة ویقصد إعلان صفقة القرن، نحن لا نصنع حتى الکاوتش وندفع الأموال لشراء السلاح لنقتل بعضنا البعض. وحیاتنا لیس فیها من الإسلام إلا الزواج والمیراث.
وهنا نطرح سٶالاً: هل المقصود من فكرة تجديد الخطاب الديني المعنى اللفظي واللغوي والشكلي للكلمات، أم المقصود المضامين والأفكار الكبرى التي يدعو إليها هذا الخطاب الديني؟
فمصطلح الخطاب نفسه وبمفرده يُستعمل بشكل مُبهم وغير محدد وربما عن عمد، ليسهل استخدامه لأداء مهام عديدة ليست كلها ذات طابع فكري، كما قد يفترض بل تتسم بالطابع السياسي کما ذکرها بصراحة فضیله شیخ الأزهر والحقيقة أن مصطلح "الخطاب الديني" نفسه قد وقع ضحية لقوانين القوة التي تحکم العالم الغربي وتستخدمها السلطة الحاكمة صاحبة النفوذ في العالم العربي، مدعومة ببعض القوى العلمانية التي تساندها، مستخدمة إمكانياتها الاجتماعية والإعلامية والمادية في السيطرة والتحكم في طريقة التجديد وطبيعته، والتعامل مع الثوابت بنفس طريقة التعاطي مع الفرعيات۔۔ التمسك بالأصول والثوابت الإسلامية: أصول الدين وثوابته لا تقبل التجديد بأية حال من الأحوال، وأي تجديد يتناول شيئاً منها يدخل في إطار التبديد، كالتجديد في العقيدة الإسلامية، وأركان الإسلام الخمسة، وكل ما ثبت بدليل قطعي من المحرمات كالزنا والربا وشرب الخمر، وأصول الأخلاق بجانبيها، وهذا يشمل ما يتعلق بعلاقة الإنسان بربه كالإخلاص، والخوف من عقابه، وما يتعلق بالإنسان وأخيه الإنسان من صدق ووفاء ورحمة وبرٍّ وإكرام، وكذا ما ثبت بنصوص قطعية في أمور الشريعة والحدود والقصاص والمعاملات، وأمور الأسرة من زواج وطلاق وإرث.
وإذا كان هناك تجديد في الأصول والثوابت الإسلامية من منظور الإسلام، فإنه التجديد الذي يحيي الأصول ويعيد الحيوية إلى الثوابت، بل هو السبيل لامتداد تأثيرات ثوابت الدين وأصوله إلى جوانب الحياة المختلفة.
والتعامل مع الثوابت والمتغيرات على وجه واحد إمَّا أن يفضي بالثوابت إلى التحلل وضياع الهوية الدينية، وانصهار العقيدة الإسلامية في الملل والنواحي، الأخرى، وإما أن يفضي بالمتغيرات إلى الجمود والتقليد، وكلتاهما يضيع الدين بينهما. وجاءت التصريحات، التي أدلى بها الدكتور أحمد الطيب، خلال مؤتمر الأزهر العالمي للتجديد في الفكر الإسلامي.
فقد اختلف شيخ الأزهر مع رؤية الخشت لما يمثل "تجديداً للتراث الإسلامي".
إذ يرى الدكتور الخشت، الذي كان أستاذ فلسفة في جامعة القاهرة قبيل ترؤسها، ضرورة تجديد التراث الديني بما يتناسب مع مقتضيات العصر الحديث، وهذا لا يتضمن "ترميم بناء قديم" بل "تأسيس بناء جديد بمفاهيم حديثة" لتحقيق "عصر ديني جديد".
ورداً على ذلك، أكد شيخ الأزهر على أهمية التراث الذي "خلق أمّة كاملة" وسمح للمسلمين "بالوصول إلى الأندلس والصين"، مضيفاً بأن "الفتنة الحالية سياسية وليست تراثية".
إن تجديد الخطاب الديني لا يعني التجديد لأصول الدين وثوابته، فهذه مسائل غير قابلة للتجديد أو التغيير، لأنها أركان يقوم عليها بنيان الإسلام وشريعته؛ "فالتجديد إذن هو عودة للمنابع والأصول عودة كاملة صافية، ودعوة للثبات على الحق، وترك التقليد القائم على الاتباع والمحاكاة على غير بصيرة، ومن هنا يتبين أن التجديد عملية إصلاحية محافظة، وليس عملية تخريبية منفلتة" وهناك بعض المدارس الفکریة ترید التجدید لبعض الأسباب التي تجعل من التجديد ضرورة لازمة، مثل:
. غياب بعض معالم الدين: حيث ظهر بعض الفلسفات والتقاليد والعادات التي غيَّرت فهم الناس لكثير من حقائق الدين الإسلامي، وظهر ذلك جليّاً بكثرة الفساد واتساع رقعة الانحراف، وتفشي البدع والضلالات، وانفتاح بلاد المسلمين أمام الفلسفات والثقافات والعادات الغربية السلبية، كما شهد النظام الدولي تحولات نحو هيمنة النظام الأميركي على باقي أنظمة العالم، وكذلك إخضاع الأنظمة السياسية والاقتصادية للمصالح الأميركية، ولكي يتحقق ذلك فلابد من تهميش الأنظمة الحضارية ذات الجذور الدينية، مثل النظام الإسلامي، حتى تتهيأ الشعوب لقبول النموذج الأميركي في الحياة باعتبار أنه أفضل النماذج التي تمثِّل حضارة العصر الذي نحياه، كل ذلك أدى بدوره إلى غياب بعض معالم وحقائق هذا الدين.
لكن هل المناوشات الکلامیة بین شیخ الأزهر والخشت، والخوض في عقيدة الدین الأساسیة وظهور حالة من السجال في الشارع المصري تحت اسم تجدید الخطاب الدیني هي التي ستقوم بهذا التجديد المأمول؟
كما أنه يوجد خلل واضح في فهم مراتب الأعمال الشرعية في الخطاب الديني: فالميدان الدعوي امتلأ بأصوات كثيرة انطلقت لتبليغ الإسلام وهداية الناس، لكنَّ جزءاً منها لم يحمل صفات الدعاة الفقهاء؛ مما أدى إلى اختلال ميزان الترتيب الدعوي، ومن مظاهر ذلك تركيز الوعَّاظ وخطباء المنابر على الأمور الفرعية والهامشية، وتعظيم الأمور الهيِّنة، وتهوين الأمور العظيمة، فيقيمون الدنيا ويقعدونها من أجل الإصبع في التشهُد هل نحركه أم لا؟ أو البسملة في الصلاة هل نجهر بها أم لا؟ أو صلاة ركعتين أثناء الخطبة هل نصليهما أم لا؟ أو كيفية السجود في الصلاة هل نقدم الرجلين أم اليدين؟ وما إلى ذلك من المسائل الفرعية التي طال فيها الجدل، وإغفال الكثير من القضايا المهمة، كقضية التخلف الاقتصادي والسياسي الذي ذکرها شیخ الأزهر، في سیاق حدیثه وإهدار مصالح الخلق، وأكل أموال الناس بالباطل، والغني الفاحش للبعض في مقابل الفقر المدقع، والأمِّية وغير ذلك من القضايا الأساسية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.