في عالمٍ واقعي تماماً، يكبر معظمنا مهمَّشاً، يعاني آلاماً في الرقبة من طول نظره إلى الأعلى، ويصاب بضعفٍ في نظره من طول التحديق بالبنايات العالية، ويصاب بوجعٍ في الفقرات السفلى من ظهره، لأنه بين انحناءين قاصيَين، قاسيَين: انحناء إلى الوراء، ليستطيع رؤية أعلى قمة للـ "هاي كلاس"، وانحناء إلى الأمام ليرفع مقطف الطين فوق رأسه.
هو روتين يومي نستطيع ملاحظته حين نكون محشورين في النقل العام، وأنوفنا منبعجة على باب الأتوبيس، بينما نرى على بُعد مترٍ واحد فقط، سيارات كثيرة تشغل أضعاف مساحة أتوبيسنا الشعبي القذر، وبها أناس قليلون جداً. وهذا ليس حسداً وإنما أمر شبه طبيعي.
من الطبيعي أيضاً، أن المرء قد لا يبقى في طبقته إلى الأبد، يصعد من طبقة إلى أخرى بالتدريج، بشكل متفاوت في السرعة والقدرة وعدد السنوات، لكنه قد يصل، وحين يأذن الله له بالجلوس متربعاً بالأعلى، فإنه يكون أعلم الناس بأصدقائه في الأسفل، لا ينكرهم، ولا يدّعي عدم معرفته بهم، سيظلون طوال العمر أصدقاء الطبقة العطِنة القدامى، مهما صارت تلك الطبقة جزءاً من الماضي، فالإنسانُ مهما تبرّأ من تاريخه، فسيظل به رائحته، وعلى رأي السيد مريد البرغوثي: "السمكة حتى وهي في شِباك الصيادين، ستظل تحمل رائحة البحر". وهنا يقصد السفر والغربة، وأنا استخدمتها كذلك هنا، في السفر من كرسي إلى كرسي، ومن مجموعة إلى مجموعة.
لكن.. هناك نوعٌ آخر منذ قديم الأزل، سنجده الرجل الأسود في رواية "كوخ العم توم"، الذي يعمل مع العنصريين البيض، ويتخيل نفسه من طبقتهم، ويمارس طبقيته الجديدة على السود مثله، لكنهم بينما يعملون خدماً فإنه كبير الخدم، وهو النوع ذاته الذي في فيلم "جانجو"، الذي نجد فيه أقذر شخصيات الفيلم، ليس الرجل الذي يستعبد السود أو يعذّبهم، وإنما هو ذلك العبد الذي ترقَّى لدى سيده حتى صار في مرتبة بين العبد الباحث عن حريته، والسيد الفارض سيادته، هو ذلك العبد الذي يرضى بأن يكون عبداً إلى الأبد؛ بل يَشي بكل من يريد التحرر من الطوق، كأنه كُتب عليه طوال عمره أن يعيش كلباً.
على غرار ذلك النوع، سنجد كائناً من الفصيلة نفسها، سنسميه مَجازا -وحقيقةً- "كائن المحمد رمضان"، وهو ذلك النوع الذي صعد من طبقة المهمَّشين إلى طبقة المتصدِّرين، من طبقة العامة إلى طبقة النخبة، من طبقة البيوت الطينية إلى طبقة القصور الفارهة. وإلى هنا، اللهم لا اعتراض، كلنا قد نكون ذلك الشخص يوماً ما، لكن حين يدوس في كل طبقةٍ يصعدها الطبقةَ التي قبلها، كأن أذرع الناس التي اتخذها درجات لسُّلمه، تستحق الكسر بعد وصوله إلى القمة- فهذا هو مربط الفرس، أو مربط الجحش.
قد يكون الإنسان موهوباً في أي شيء؛ في الرقص، في الغناء، في التمثيل، ويستغل ذلك على أي وجه يَرى، برسالةٍ أو من دون رسالة، بفكرة أو من دون فكرة، بإضافة إلى المجتمع، أو من دون إضافة، وله الحق كذلك في جني الأموال، وبناء تلال من كل شيء يحبه.
لكن السؤال الذي يجب طرحه، هو: كيف يفيد نفسه دون أن يضر غيره؟ كيف يُرضي مطامعه دون أن يؤرق مضاجع الناس؟ كيف يصور نفسه من الخاصة دون أن يؤذي العامة؟ كيف يُشبع غروره وكِبْره بينه وبين نفسه، لا على حساب المساكين من الشعب الذي كان منه قبل سنوات؟ قبل أن يطير على طائرة خاصة، يلتقط فيها مقطعاً مع السائق المخطئ، داخل قمرة القيادة، ويُفصَل الطيار من عمله بسبب حماقته، ويُنهي تاريخه بيده، ويسقط من أعلى ارتفاعٍ كان يقود فيه، إلى أسفل قاعٍ يمكن أن يدفَن المرء تحته، ثم حين يطلب "الإنسانُ المخطئ" من "الفنان المعصوم" أن يعوّضه عن حماقة كان جزءاً أساسياً وكبيراً فيها، يسخر منه، لأنه ثري ومشهور، ثري ومشهور فقط!
وهنا نجد مفارقةً مُرَّة، وهو أن البعض قد يكون ممثلاً جيداً، يجيد أداء كل الأدوار، لكنه لا يجيد -ولو للحظةٍ واحدةٍ- أن يكون حقيقياً، هو مجرد قناعٍ، حياته انتهت عند هذا القناع، إن خلعه مات، كأن فيه روحه، وإن أراد تغييره فإنه لا يُسقطه عن وجهه، وإنما يستبدل به قناعاً آخر يضعه فوقه، حتى يترهل وجهه الحقيقي وتموت خلاياه، ويسير بقناعه الضاحك، لكن رائحةً ما ستظل تنبعث منه، تجعل الناس يصفقون له من بعيدٍ، لكنَّ أحداً، أي أحد، لن يجرؤ على الاقتراب منه، لأنه يعج برائحة العفن.
وكائن الـ "محمد رمضان" هذا -أعزك الله- يرى نفسه دائماً فوق الأكتاف، ستجده فوق الأرض بطائرة، أو فوق الطريق بسيارة مرتفعة أكثر من اللازم، أو فوق الرؤوس في إعلان عادي لا يستوجب أن يحمَل أحدهم فوق الرؤوس، أو في هودَجٍ يحمله بعض العبيد (الممثلين)، في دعايةٍ لشيءٍ بعيدٍ كل البعد عن قريش، ستجده دائماً يؤكد كونه ملكاً، وكونه إمبراطوراً، وكونه أسطورة، وكونه أسداً، وتود -يا سيدي- أن تقول له، إشفاقاً عليه: إن الأسد لا يقول لنا إنه أسد، بل يكفيه ويكفينا زئيره.
ويجهل هذا الكائن أن أصل الرفعة وسط الناس أن تسير بينهم، لا فوقهم، وأن الارتفاع الحقيقي هو ذلك الذي يحملونك خلاله في أعينهم بينما أنت وسطهم، لا ذلك الذي يضعونك فيه على أطراف أحذيتهم بينما أنت محمول -بالعافية- فوق رؤوسهم.
ويتخيل كائن المحمد رمضان نفسَه "نامبر وان" دائماً، مهما أخبرته بأن الرياضيات تَسَعُ أرقاماً لا حصر لها، وأن الأعداد من دون آخر، والحساب إلى ما لا نهاية، لكنه يظل يؤمن بأن الأرقام ليس فيها إلا الواحد فقط، وأن رقم واحدٍ لم يُخلَق إلا من أجله، رغم أنه قد يكون أصلاً خارج كل الحسابات.
وفي مجتمعنا كثيرون من كائن المحمد رمضان، لن أضعه بين علامتَي تنصيص، علينا أن نتبنى هذا المصطلح كشيء طبيعي. المهم، في مجتمعنا كثيرون من هذا الكائن، الذي يصل على أكتاف الآخرين، أو يصل على قدميه، لكنه لا يريد أن يكمل رحلته بشرف، فيدوس أكتاف الآخرين، ويتخيل نفسه خفيف الدم رغم أن دمه "يلطش"، ويتخيل الناس يضحكون من أجله، بسبب أناسٍ حوله يضحكون من اللاشيء، كما تقول سِتّي "فِشّتُهم عايمة"، يصنعون آلهة من أشياء مختلفةٍ تماماً عن العجوة.
وهنا يا سيدي، يتبين لنا بوضوحٍ، الشبعانَ من الجائع، والكريم من الذليل، والأصيل من الناقص، والذي يشق طريقه في صمت ويحتفل بوصوله في تواضع، والذي يشق طريقه في ضجة ويحتفل بوصوله في صخب حتى وإن كان طريقه مترَين، وهنا يحضرني المثل القائل: "اللي مشبعش على طبلية أبوه.. عمره ما يشبع مهما جابوا واِدُّوه".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.